الفرنسية- الإيرانية دلفين مينوي تفكّك العنف في نظام شمولي

الفرنسية- الإيرانية دلفين مينوي تفكّك العنف في نظام شمولي
دلفين مينوي.
Smaller Bigger

كثيرةٌ هي الأسئلة التي تطرحها رواية "أبجدية الصمت" للكاتبة والصحافية الفرنسية الإيرانية الأصل دلفين مينوي، الصادرة عن دار نوفل في بيروت، بتعريب أدونيس سالم، بدءاً من حرّية التعبير، مروراً بالعنف الدولتي والقمع السياسي والاعتقال الكيفي والعدالة الاستنسابية والحرب العبثية والإرهاب الديني، وانتهاءً بالمسألة الكردية، إلى ما هنالك من أسئلة تشكّل أعطاباً تعتور الأنظمة السياسية الشمولية حول العالم.

والرواية هي الكتاب السابع لصاحبتها التي مارست مهنة الصحافة في كل من إيران وبيروت والقاهرة، وتعمل اليوم مراسلة لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في اسطنبول، ما يجعلها على دراية بالواقع السياسي في المدينة التي تدور فيها الأحداث، ويجعل الرواية واقعية بامتياز.

 

 

 

 

 

 

خلفية تاريخية

تجري أحداث الرواية في اسطنبول بين كانون الثاني/ يناير 2016 وتموز/ يوليو 2019، وتبدأ بإلقاء القبض على أستاذ التاريخ في جامعة البوسفور غوكتاي دليم بتهمة دعم الإرهاب لمجرّد توقيعه على عريضة جماعية تدعو إلى وضع حدّ للعمليات العسكرية المندلعة جنوب شرق البلاد،  وتنتهي بالإفراج عنه بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الاعتقال الكيفي.

وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع القاسية تشكّل التداعيات المترتبة على الاعتقال، الواقعة على المعتقل وأسرته، من جهة، وتلك المترتبة على الأعمال التعسفية، الواقعة على آلاف الأساتذة والمعلمين والموظفين المشتبه بتعاطفهم مع انقلاب 15 تموز / يوليو 2016 المنسوب إلى المعارض التركي المنفي عبدالله غولن، من جهة ثانية.

وهكذا، يشكّل الانقلاب المذكور والأحداث الإرهابية السابقة له واللاحقة به، الخلفية التاريخية التي تجري في ضوئها أحداث الرواية. وتتخذها السلطة ذريعة للتنكيل بمعارضيها والتضييق على الحالمين بالديموقراطية والحرية في نظام شمولي يصدر عن خلفية ثيولوجية.

تتمحور الأحداث حول شخصيتي الزوجين، أستاذ التاريخ في جامعة البوسفور غوكتاي دليم وأستاذة اللغة الفرنسية في جامعة غَلَطَة سراي أيلا، وتتناول تداعيات الاعتقال على الأسرة والمحيطين بها أصدقاء والمتعالقين معها من زملاء، ناهيك بالقمع الدولتي الواقع على آلاف الموظّفين،  من جهة، وآليات المواجهة التي لجأ إليها المعتقل وأسرته والآخرون، من جهة ثانية. وهي آليات ينخرط فيها الزوجان باعتبارهما الشخصيتين المحوريتين في الرواية والشخوص الأخرى المتعالقة معهما، بشكل أو بآخر. وهكذا، تكون الرواية هذا الصراع الممتد، طيلة ثلاث سنوات ونصف السنة، بين ممارسات السلطة الحاكمة وآليات دفاع الرعية المحكومة.

 

 

تداعيات القمع

   تتعدد تمظهرات القمع في الرواية، وتتراوح بين: الاعتقال التعسفي، والطرد من العمل، والتطهير الوظيفي، والاستدعاء الجنائي، والتحقيق الإداري والقضائي، والتشهير العلني، والتنصت الهاتفي، والضرب المبرح، والمنع من السفر، ومصادرة الكتب، وإقفال الجامعات، والحجر على التفكير، واعتقال الطلاب  وغيرها.

هذه التمظهرات كانت لها تداعياتها الجسدية والنفسية على الشخصييتين المحوريتين في الرواية والشخوص الأخرى المكملة لهما، من موقع أو آخر. وعليه، يعاني المعتقل غولتاي في الزنزانة خسارة الوزن وشحوب الوجه وضمور الخدين وتقوس الكتفين وضعف الذاكرة، على المستوى الجسدي، ويعاني العزلة والفراغ واليأس والندم والاكتئاب، على المستوى النفسي، إلى حدّ أنه يفكر في الانتحار، غير أن تذكره زوجته وابنته يجعله يعدل عن تنفيذ فكرته.

وتعاني الزوجة أيلا، بعد اعتقال زوجها، وحشة المكان ومحاصرة الخوف ودوام القلق وجنون الارتياب ومشاق الانتقال وتراكم الأعباء المالية والمنع من السفر وقلة الأصدقاء وتجنب الأهالي والعجز والضياع. وتعاني الإبنة دنيز فقدان الأب والقلق والأرق والشرود. ويعاني الأساتذة المفصولون من العمل من تداعيات أخرى مختلفة لا يتسع المجال لذكرها.

 

  آليات دفاع

  في مواجهة هذه التداعيات، تلجأ الشخصيات إلى آليات دفاع معينة. وفي هذا السياق، يلجأ بطل الرواية المعتقل إلى آليات التذكر والحلم والتمارين الرياضية واللقاء الاجتماعي والرسم التجريدي، كي يبقى على قيد الصمود في زنزانته، ويبلغ دفاعه الذروة حين يقوم بالإضراب عن الطعام، ما يؤدي إلى هزاله وفقدانه القدرة على السير وغيابه عن الوعي ونقله إلى قسم الطوارئ، حتى إذا ما تمّ تحديد موعد المحاكمة، يبدأ باستعادة أنفاسه، ويتماثل للشفاء استعداداً لخوض معركة المحاكمة التي يربحها، في نهاية المطاف، لاعتبارات ذاتية وموضوعية.

وتلجأ الزوجة بطلة الرواية إلى آليات دفاع مختلفة، من قبيل: الاستعانة بمحامين، قراءة الشعر، ممارسة الرياضة، العودة إلى الجامعة، التوقيع على العريضة التي وقّع عليها الزوج، المشاركة في أنشطة مختلفة، وإقامة معرض متجول لرسوم زوجها في حدائق اسطنبول، ما يبقي قضيته حية. ويكون لهما داعمون من الطلاب والأساتذة والأصدقاء، بأشكال مختلفة. وفي هذا الإطار، تلعب المحامية ديليك يلماز دور الملاك الحارس لأيلا في بداية محنتها. يرسل الطالب أوزان كتب جان جاك روسو وكلمات داعمة موقعة من الطلاب لأستاذهم في السجن.

إلى ذلك، ثمة آليات دفاع أخرى لجأ إليها آخرون ممن وقعت عليهم تداعيات القمع؛ فالأساتذة المصروفون من العمل يؤمّنون أماكن بديلة لتدريس طلابهم، ويُخرجون مسرحية "التمساح" المستوحاة من رواية لدوستويفسكي في محاولة منهم لإسقاطها على واقع الحال وتعرية ممارسات السلطة، وينظم بعضهم الاحتفالات الغنائية، ويرفعون صورة زميلهم المعتقل خلال جلسات المحاكمة. والناشطون الأكراد ينظمون التجمعات السرية والاعتصامات الجماعية والمحاضرات التثقيفية. وهكذا، تتعدد آليات المواجهة، ويختلط فيها السياسي والاجتماعي والفني والثقافي والتربوي، ما يترتب عليها نتائج إيجابية في نهاية الرواية.

 

سلوكيات مناسبة

  هذه الأحداث تصقل مهارات الشخوص المنخرطة فيها، وتنمّي استعداداتها للحلم بالحرية والديموقراطية وممارسة الحقوق المشروعة وتحدّي القمع الدولتي بتمظهراته المختلفة.

ولعل تحليل الشخصيتين المحوريتين في الرواية يؤكّد الاستنتاج الذي نذهب إليه؛ فبطل الرواية يأتي توقيعه العريضة في سياق اهتمامه الدائم بالقضايا العادلة، من جهة، والتكفير المتأخّر عن ذنب ارتكبه أبوه الضابط في تعامله مع المسألة الكردية، من جهة ثانية. وهو ينزع، منذ نعومة أظفاره، إلى التمرد والعصيان حتى التهور، ولا يبدي الندم على التوقيع إلّا عندما يدرك حجم الضرر الذي ألحقه بأسرته، ويتسم بالعناد الذي يجعله يتمسك بحقه في التعبير وحلمه بالحرية، ويجترح آليات الصمود في معتقله. وهنا، تتناسب صفات الشخصية مع السلوكيات الصادرة عنها.

على أن هذا الاستنتاج ينطبق بدوره على شخصية بطلة الرواية إلى حدّ كبير؛ فأيلا تميل منذ نعومة أظفارها إلى التمرّد والاختلاف، ما تسبب في اختلال علاقتها بأسرتها. وهي نسوية سابقة ناضلت من أجل حق المرأة في الاختيار، حتى إذا ما جنحت نحو الهدوء واللامبالاة، بعد زواجها، يأتي اعتقال الزوج ليوقظ فيها استعداداتها السابقة، فتستعيد قدرتها على النضال، وتسعى إلى رفع الظلم عنه وإطلاق سراحه بكل السبل المتاحة لها، وتبذل دون ذلك الغالي والنفيس، وتعاني الوحدة والخوف والقلق وجنون الارتياب، لكنها تتمكن، في نهاية المطاف، وبمساعدة الأصدقاء والطلاب، من تحقيق هدفها، ما يشحذ طاقتها للانتصار للقضايا العادلة. لذلك، تقرر في نهاية الرواية الاحتفاظ ببعض أدوات النضال، فقد تحتاج إليها في المستقبل.

  "أبجدية الصمت" رواية قوية وواقعية ومكتوبة بأسلوب الصحافي الملم بواقع الحال. تسمّي الأشياء بأسمائها، وتضع الأحداث الروائية في إطارها التاريخي، من خلال تحديد توقيت بعض الأحداث وأماكن حدوثها، ما يرسخ واقعية الرواية بامتياز. على أن أهميتها تبقى في أنها صرخة مدوية في وجه القمع الدولتي بتمظهراته المختلفة. من هنا، ضرورة قراءتها والإفادة من حكايتها والاستمتاع بخطابها الروائي.  

الأكثر قراءة

ثقافة 10/17/2025 6:10:00 AM
تُعدّ المقاهي الشعبية البيروتية مرآة دقيقة لتحوّلات المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة (1950–1970).
ثقافة 10/17/2025 6:15:00 AM
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب.
ثقافة 10/17/2025 6:17:00 AM
المقهى.. أكثر من مجرد قهوة: تجربة حياة كاملة
ثقافة 10/17/2025 6:12:00 AM
كان الـ "هورس شو" في بناية المرّ قاطرة القافلة التي ضمت مقاهي الـ "إكسبرس" في بناية صباغ، و"مانهاتن" في بناية فرح، ثم مقاهي "نيغرسكو" و"ستراند" و"الدورادو" و"كافيه دو باري" و"مودكا" و"ويمبي" وغيرها.