الأدب السوري النازف منذ "إبلا"... إلى فظائع الأسد: نوبل وأكثر
على مر عقود من حكم عائلة الأسد، نافس خيال شاويش "السجن" والآمرين بأحكامه مخيلة أكبر الأدباء. فالروائيون والقصّاصون تحدثوا عن دواليب التعذيب وحكايا الاغتصاب والتعرية والتكبيل بالصعقات الكهربائية والوجبات الدسمة للأسود، لكن أن يصل الحال إلى استخدام مكبس بشري ينفع في استثمار الدهون المسالة كمادة أولية لشركات تجميل عالمية، فهذا لم يخطر في بال آدمي، لكنه حصل في سوريا حيث لا يزال في جعبة المثقفين الكثير لروايته عن خبايا نظام أخذ بوصية الرئيس السابق حافظ الأسد لابنه بشار الذي جاء الى الحكم على غفلة من القدر الذي خطف شقيقه باسل في حادث غامض، وقد جاء في الوصية: "يغرقك أي ثقب في المركب الصغير الذي اسمه سوريا، وعليه متاح لك فعل أي شيء للحؤول دون حصول اختراقات"، فكان ما كان وغرقت البلاد بأشكال تعذيب وكم أفواه ستبقى مادة رئيسة للأقلام على مدى عقود للأمام، ليس في سوريا فحسب، وإنما لدى كل من عاصر "سجن صيدنايا" وغيره، و ما تزال تتكشف خفايا ما خلف الجدران المجبول بأجساد السجناء ومعتقلي الرأي ورجال ونساء إنما رفضوا الإذعان لجبروت طاغية الزمان.
نكبة دمشق
وعلى الرغم من النكبات التي اختبرها أصحاب الرأي في المعتقلات السورية في الزمن "البعثي"، إلا أن المآسي جرح مفتوح اختبره المواطن السوري منذ مملكة إبلا التي تعود الى 3 آلاف عام قبل الميلاد، تاريخ غرس أول شجرة زيتون في البلاد، وقد أعقبتها مملكة ماري وعثر فيها على لوحات مسمارية مكتوبة بالخط السومري، وكلاهما دمرت على يد سرجون الأكدي الذي تخبر الأساطير عنه: "وحملت بي أمي وضيعة الشأن، وأخرجتني إلى العالم سراً ووضعتني في قارب من السلّ كالسلة وأغلقت عليّ الباب بالقار". وأنجاه أحد العمال، وأصبح فيما بعد ساقي الملك، فقربه إليه، وزاد نفوذه وسلطانه. ثم خرج على سيده وخلعه وجلس على عرش أجاد، وسمى نفسه "الملك صاحب السلطان العالي".
ومن محافظة اللاذقية على ساحل البحر المتوسط، مع حلول الألف الثاني قبل الميلاد، عمرت مملكة أوغاريت في موقع رأس شمرا التي تم العثور فيها على أقدم أبجدية في التاريخ. وتعاقبت الحضارات: الكنعانيون، الأموريون، الفينيقيون، الأراميون...وصولاً إلى حروب ملوك طوائف الإسكندر والسلوقيين حيث اشتعلت حرب أهلية في البلاد، ودخلت سوريا في العصر الرومي الذي كان مسرحاً هو الآخر للحروب، ومن ثم الدخول في العصور البيزنطية والأموية والعباسية والعثمانية والاحتلال البريطاني والانتداب الفرنسي قبل الوحدة مع مصر وصولاً الى توقيع وثيقة الانفصال عام 1961، واستيلاء حزب البعث على السلطة فيما عرف بثورة الثامن من آذار(مايو)، والباقي حاضر في ذاكرة كل من جايل النظام الأخير.
وقبل الدخول في "زمن البعث"، كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الشهيرة "نكبة دمشق" عقب قصف المدينة من قبل الفرنسيين عام 1945: "سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ .. وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ".
أدب تحت التنكيل
ولدت روايات سوريا، منذ الانقلاب على السلطة الذي نفذه حافظ الأسد عام 1970، تاريخ وصول الفرع السوري لحزب البعث إلى الحكم، من رحم المعاناة والتنكيل على مدى 53 عاماً من حكم عائلة الأسد.
وكتب عن تلك المرحلة روايات سردت صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، ومنها كتاب "بالخلاص يا شباب... 16 عاماً في السجون السورية" لياسين الحاج صالح، ورواية "القوقعة... يوميات متلصص" للكاتب المسيحي مصطفى خليفة الذي اتهم بأنه من "الأخوان المسلمين"، و"خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في السجون السورية" للكاتبة هبة الدباغ، و"سلام من صبا بردى (مرام) للكاتب خالد البريش و"عائد من جهنم... ذكريات من تدمر وأخواته" للمعتقل اللبناني علي أبو دهن و"الشرنقة" للروائية حسيبة عبد الرحمن عن تجربتها في سجن دوما، و"يسمعون حسيسها" للروائي الأردني أيمن العتوم و"خيانات اللغة والصمت... تغريبتي في سجون المخابرات السورية" للصحافي فرج بيرقدار و"بوح الضحايا" لهدى سرجاوي التي روت يوميات أمهات المعتقلين و"نيغاتيف" لروزا ياسين حسن التي التقت بعشرات المعتقلات السياسيات ودونت قصصهن...، وتطول القائمة.
ماذا بعد الأسد؟
يتوقع الكاتب والصحافي جورج الراسي، الحائز على دكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون، وابن "مثلث يبرود- رأس بعلبك-زحلة"، أن تمهد المرحلة المقبلة في سوريا الطريق لجوائز نوبل بالجملة. فالإبداع يولد من رحم المعاناة، وثمة الكثير من الأفكار السجينة التي تحتاج إلى تحريرها من خلف القضبان ولسع أحزمة السجانين ومشارطهم. فالسوري وفق الراسي، اختبر قهر الداخل والتغريبة خارج البلاد في رحلات نزوح أوصلته إلى أصقاع العالم النائية، مستعرضاً تجربة ستيف جوبز الذي طرد من حمص فكانت "آبل"، وكذلك الحال بالنسبة لقريب الراسي السوري ابن بلدة يبرود كارلوس منعم الذي تدرج في المناصب الى رأس السلطة في الأرجنتين، والحال نفسه مع شيخ المفكرين السوريين أنطون مقدسي، خال جد الراسي، والذي عايش وكتب عن أهم الأحداث في سوريا، وقد تقلد وسام الآداب والفنون الفرنسي، متناولاً وثلة من المفكرين أمثال جمال الأتاسي وأدونيس وصادق جلال العظم وحنا مينا وسعد الله ونوس وبرهان غليون وكثر، موضوعات تمحورت حول مسألة القومية على مشارف الألف الثالث.
عن نسيبه المقدسي، والذي أسهم مع أكرم الحوراني في تأسيس الحزب الاشتراكي العربي الذي اندمج مع حزب البعث عام 1953، وكان أحد الذين حرروا "بيان الـ99" الذي طالب بإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق الحريات العامة خلال الفترة التي عُرفت لاحقاً باسم "ربيع دمشق"، يذكر: "لقد أجبرت وزيرة الثقافة آنذاك مها قنوت، ابن بلدته يبرود أنطون مقدسي على الاستقالة لأنه نشر في صحيفة "الحياة" رسالة مطولة إلى بشار الأسد عام 2000، يحثه فيها على تحويل شعب سوريا من وضع الرعية إلى وضع المواطنة: "الوضع العام، وباختصار يا سيدي: انهيار عام، سياسي واقتصادي وأيضاً ثقافي وإنساني.. كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، إنجازات الشعب، إرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة ... إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار، هو أنه يتعايش مع هذا الوضع المتردي تعايش المريض مع مرض مزمن".
وفي إبان حكم الأسد، يستذكر الراسي بينما كان والكاتب الراحل سليمان رياشي يشرفان على صفحة "رأي وفكر" في صحيفة المستقبل اللبنانية، كيف أن المفكر السوري ميشيل كيلو ظل يحرص على زيارة الصحيفة المجاورة في مبناها لـ" البوريفاج" آنذاك، للتأكد من نشر مقالته الأسبوعية لضمان مردود مالي متواضع يسند عائلته في وقت أوصدت الأبواب أمامه في بلده إنما لأنه يحمل فكراً مغايراً، وقد حكى مراراً عن تجربة الاعتقال وحكايا المعتقلات اللواتي اغتصبن وأنجبن وترعرع أطفالهن من دون أدنى معرفة عن شكل العالم الخارجي وما الذي تعنيه الشجرة والعصفور...
روابط الدم
يرى الراسي أن الخلل الحقيقي في التجربة السورية المرة خلال العقود الأخيرة، يكمن في فتح باب التجنيد على مصراعيه للأقليات، ولاسيما العلويين منهم، وفي غالبيتهم جاؤوا من بيئات معدمة سيطر عليها التعصب القبلي، فكانت المعضلة في غرق البلاد في الطائفية والتي بدا أنها أقوى من أي توجهات فكرية، فاليسار واليمين يجتمعان في معركة واحدة وفق قاعدة أنا وابن عمي على الغريب ما أدى إلى كل هذا التلاطم الفكري والدموي، والذي حتماً سيشكل أعمدة الأدب السوري لعقود للأمام، وخلافاً للجراح النازفة وأعداد المفقودين ودمار القرى والمقابر الجماعية، يختم الراسي: "سيكون لنا في الأدب تحديداً، على مرارة الحكايات، أجمل ما نقرأ في حال تحقق الاستقرار والسلم الأهلي واستعادت سوريا مقبض الأحرار الذي روع الغزاة على مر التاريخ.
نبض