عن "دار المحرر" للنشر والتوزيع، صدرت حديثاً الثلاثية المسرحية "بير مسعود" للشاعر والكاتب المصري ميسرة صلاح الدين، وهي تُعتبر إصداره المسرحي الخامس، إضافة إلى مجموعة من دواوينه الشعرية وترجماته الأدبية المتعددة التي تعكس ثراء فكره وإبداعه.
تتكوّن "بير مسعود" من ثلاث مسرحيات غنائية هي: "ترام الرمل"، "بار الشيخ علي"، و"بير مسعود". وقد قُدّمت هذه المسرحيات على خشبة المسرح مرات عدة قبل أن ترى النور في شكلها المكتوب.
تدور أحداث هذه الثلاثية المسرحية في مدينة الإسكندرية، وتتميز بتداخل الأحداث بشكل منفصل ومتصل في آن واحد. تقع أحداث المسرحية بين فترتي الحاضر والماضي، بحيث تعكس الواقع المعاصر لمدينة الإسكندرية وتاريخها العريق. كما تلتقط تفاصيل تراثها الفني والغنائي، وتسرد حكايات أبطالها الشعبيين، مستعرضةً عادات وتقاليد المدينة، وملامح خصوصيتها التي وضعتها في مكانة متفردة على خريطة الثقافة المصرية.
وعن هذه الثلاثية المسرحية وفكرتها يتحدث ميسرة صلاح الدين بشغف قائلًا: "تأثرت كثيرًا في نشأتي بحكايات الناس والشوارع في مدينة الإسكندرية. كنت أستمع إلى قصص العابرين والتاريخ الشعبي الشفاهي، وأحاول من خلال تلك الثلاثية المسرحية توظيف تلك المشاهدات بشكل فني مبدع. لقد استخدمت في ذلك قالباً مسرحياً غنائياً يعتمد في بنيته على حكايات حقيقية وشخصيات معروفة في الشارع الاسكندري، ولكنها غالباً ما تكون بعيدة عن كتاب التاريخ والثقافة الرسمية للدولة". 
ويضيف صلاح الدين: "استخدمت خيال المؤلف لصنع دراما العمل المسرحي، محاولاً الربط بين حاضر الإسكندرية وماضيها، وبين واقعها المعيش والأساطير القديمة المحيطة بها. فالإسكندرية، التي يرجع تاريخ بنائها لما يزيد عن ثلاثمئة عام قبل الميلاد، تتمتع بزخم ثقافي وتاريخي كبير، ما يجعل التأمل في ماضيها وحاضرها مفتاحًا لفتح أبواب الفكر والخيال".

مستقبل المدينة

يذكر ميسرة أن أول مسرحيات المجموعة "ترام الرمل" ظهرت للمرة الأولى في عام 2015 على خشبة المسرح، ولكنه بدأ في كتابة الثلاثية والتخطيط لها قبل ذلك التاريخ، واستمر في تنفيذ العمل حتى انتهى منه وأصبح جاهزاً للنشر.
تدور أحداث المسرحيات في شوارع الإسكندرية وأماكنها العامة، حيث تلتقط التغيرات التي شهدتها تلك الأماكن، وتحاول التنبؤ بمستقبلها، كما تقدم مقاومة حسية للتغيير السريع الذي يحدث فيها دون التصريح أو المباشرة.
تتناول المسرحية الأولى "ترام الرمل" بصورة أساسية قضايا الحياة اليومية في الإسكندرية، حيث يستشعر القارئ أنها تعبر عن الروح المدنية للمدينة. يتحرك أبناء الإسكندرية بين جامعاتهم ومدارسهم وأشغالهم، وتجسد الترام، التي تمر طولياً عبر المدينة، نموذجاً مثالياً حيث يتقابل في داخلها جميع فئات المجتمع، ما يسهل تفاعلاً عفوياً معبراً عن التنوع والاختلاف الثقافي والاجتماعي.
أما المسرحية الثانية "بار الشيخ علي"، فهي تعبر بشكل واضح عن جوانب الحياة الليلية في الإسكندرية، مستعرضةً حياة الفنانين والمثقفين ورجال الأعمال والطبقات الوسطى. 
تركز على صعود الرأسمالية الجديدة التي تتقدم بسرعة عبر السلم الاجتماعي. بينما تعكس "بير مسعود" صورة الإسكندرية كمدينة ساحلية ومصيف يتجمع فيه المصريون من جميع المحافظات، متفاعلين مع بعضهم بطرق متنوعة، وتظهر المسرحية أنماطاً مختلفة من شرائح المجتمع الاسكندري، بما في ذلك السماسرة وباعة جائلين على الشواطئ والمصطافين.

القالب المسرحي

في سياق حديثه عن اختيار القالب المسرحي لتقديم ثلاثيته، يقول ميسرة: "أعتقد أن القالب المسرحي هو الأنسب بالنسبة لي للتعبير عن موضوع معقد ومتعدد الأصوات مثل ثلاثية "بير مسعود". لقد تمكنت من خلال هذا القالب التعبير عن موضوعات متعددة ووجهات نظر مختلفة تتشابك وتتجادل وتتقاطع، ما يسمح لي بالانتقال بين مواقف وشخصيات وأزمنة برحابة شديدة. كما أن للمسرح سحراً خاصاً، حيث تجعل عملية الكتابة في حد ذاتها جزءاً من عملية أكبر تتعلق بالعرض على خشبة المسرح، ما يتيح لي رؤية النص الدرامي متجسداً بشخصيات من لحم ودم".
من الملاحظ أن المكان يلعب دوراً رئيسياً في الحدث الدرامي، كأنه أحد الأبطال الرئيسيين في العرض. يظهر هذا التأثير بوضوح في عناوين المسرحيات التي ترتبط بأماكن حقيقية وبارزة ذات تاريخ في الإسكندرية، وتوثق قصصاً أسطورية تتعلق بالنشأة وسبب التسمية، كما هو واضح في مسرحية "بير مسعود"، أو قصص تراثية كما في مسرحية "بار الشيخ علي"، الذي يحمل اسمه دلالة قوية على ارتباطه بالواقع الاسكندري.
وفي سياق الدور الذي تلعبه الأغنية، نجد أنها تُعتبر عنصراً آخر لا يقل أهمية عن المكان. نجح ميسرة في صياغة عدد كبير من الأغاني التي تحمل في طياتها طابعاً تراثياً اسكندرياً، بينما تعمل أيضًا على تطوير الدراما وتصاعد الأحداث. كما استغل عددًا من الأغاني الشهيرة لمطربين اسكندريين، مثل سيد درويش وعزت عوض الله وبدرية السد، ما أضفى على المسرحيات بُعداً إضافياً من العمق والتنوع.
أبرز ميسرة شخصيات شعبية معروفة لدى أهل الإسكندرية، واستفاد مما يحيط بهم من غموض وإيهام لتطوير حكايات معاصرة تتعلق بالإسكندرية في عصر جديد. كان من أبرز تلك الشخصيات الراقصة "بوسي"، التي كانت مشهورة في الستينيات والسبعينيات، وما مرّ بها من أحداث حتى انتهت حياتها مشردة على الأرصفة، تتسول بقايا الطعام وأعقاب السجائر من المارة. وكذلك شخصية جمال الدولي، كبير مشجعي الاتحاد، الذي تخرج من كلية الآداب لكنه فقد عقله واختفى في ظروف غامضة، ما يضيف إلى المسرحيات بُعداً من الحقائق والخرافات التي تحيط بحياته.
أما عن التغيرات المتلاحقة التي شهدتها مدينة الإسكندرية في السنوات الأخيرة، فيرى ميسرة صلاح الدين أن المدينة العريقة تُعتبر جزءًا من تاريخ عميق، وأن لها طبيعة خاصة تتيح لها امتصاص الصدمات والتأقلم معها للخروج بشكل مختلف. 
وأوضح أنه من الضروري ايجاد نوع من التوازن بين تاريخ المدينة ورؤيتهم المستقبلية، مع ضرورة الحفاظ على الطابع التراثي والثقافي الذي تتميز به المدينة، حتى يُعتبر التطوير تحركاً إيجابياً يُعزز من مكاسب التاريخ وطبيعة المدينة.
تقدم "بير مسعود" تجربة فنية متميزة تعكس عمق الهوية الاسكندرية، حيث تُبرز مسرحياتها التوترات الاجتماعية والثقافية في سياق درامي فني. 
تتناول قضايا الهوية والانتماء من خلال شخصيات تتفاعل مع محيطها، ما يمنح القارئ والمشاهد فرصة للتفكير في التغيرات التي تمر بها المدينة. تتجاوز المسرحيات مجرد كونها وسائل للترفيه، لتكون منصات حوارية حول القيم والتقاليد في زمن متغير. من خلال هذا التفاعل الفني، يتم إعادة تعريف العلاقة بين الماضي والمستقبل، وتُعد "بير مسعود" دعوة للانفتاح على الماضي وفهمه بشكل صحيح، بالإضافة إلى دعوة أخرى لتقبل المدينة الجديدة وفهم طبيعة المرحلة، مع التأكيد على أهمية الحفاظ على جذور الهوية وخصوصية المكان.