
تحمل سيرة حياة «فايزة أحمد» أبعاداً درامية تجعلها ملائمة لفيلم سينمائي كثيف الأحداث والتحولات.
بين المعاناة والمعارك والحب والهجر والمرض الذي أودى بحياتها عن عمر قصير (49 عاماً)، عاشت فايزة منشغلة بالصراع بدافع الغيرة الفنية رغم تصنيفها بالصوت الأفضل بعد أم كلثوم، لكنّها رحلت دون أن تدرك قيمتها الفنية وهي التي وصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوتها بالألماس المكسور، وقال عبدالحليم إن صوتها مفعم بالحساسية والشجن، بينما رأتها شادية صادقة وصاحبة إحساس عالٍ.
تميزت فايزة بصوتها العذب وقدرتها على التنقل بين المقامات الموسيقية بمرونة، ما جعلها قادرة على أداء كل ألوان الغناء، وامتلكت قدرة فريدة على نقل المشاعر بصدق منقطع النظير، فتشدو بكل جوارحها وإحساسها.
"كروان الشرق" لقبٌ استحقته فايزة، إذ امتلكت حنجرة مرنة تحمل بحة ربانية أضفت مزيداً من العذوبة بدرجة جعلت صوتها لا يحتاج إلى آلات موسيقية، فصوتها موسيقى بحد ذاته وكأن الموسيقى تحجب جزءاً من جماله.
البداية والنشأة
لا تملك عند سماع فايزة سوى الشعور بالامتنان لله ولـ"لبنان" الذي أهدانا هذا الصوت الذي لم يتكرر، وهي التي ساد اعتقاد أنها "سورية"، غير أنها لبنانية مولودة في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 1934 في صيدا لعائلة الرواس، عاشت في صيدا سنوات طفولتها الأولى حتى انفصال والديها.
أمها لبنانية من مدينة طرابلس عشقت الموسيقى والغناء، وكانت داعمها الأول واكتشفت موهبتها وساندتها، واشترت لها آلة العود واسطوانات الأغاني. وكانت الأم معجبة بأم كلثوم وتضرعت لله أن يمنح ابنتها شهرتها وحلاوة صوتها، ويبدو أن الله استجاب لها.
بدأت مشوار الغناء كهاوية في العاشرة، واحترفته في السابعة عشرة، وعملت بكثافة وكأنها تسابق الزمن، إذ داهمها شعور دائم أن عمرها قصير، كانت تسافر لتسجيل أغنياتها في الإذاعة السورية صباحاً، وتعاود في الليلة نفسها للغناء على الهواء في الإذاعة اللبنانية مساءً.
وجاء التحول في مسيرتها عند انتقالها الى القاهرة في منتصف الخمسينيات، وسعت ليكون أول أعمالها من ألحان محمد الموجي إعجابا بموسيقاه، وكان الموجي أحد من تبنوها فنياً في بدايتها، وصنع لها أجمل أغنياتها وأولها "أنا قلبي إليك ميال" التي حققت نجاحاً كبيراً ورسخت حضورها في القاهرة.
هذا النجاح دفع بالموسيقار محمد فوزي للتعاقد معها في باكورة أعمال شركته "مصر فون"، وعملت معه من دون مقابل بأغنيتي "يا مه القمر ع الباب" و"أنا قلبي إليك ميال" وحققت أرباحاً كبيرة للشركة.
كالكراون ينتقل مغرداً من غصن إلى غصن، انتقلت فايزة من محطة غنائية الى أخرى بالتعاون مع أشهر ملحني عصرها وبينهم فريد الأطرش ورياض السنباطي ومحمود كامل وكمال الطويل ومنير مراد. واعتبرت "عبدالوهاب" أباها الروحي في الموسيقى، وسعت طويلاً للوصول إليه كي يلحن لها، وبالفعل قدم معها أجمل أغنياتها وبينها "بريئة" و"تهجرني بحكاية" و"حمّال الأسية" و"هان الودّ"، وأشهر أغنيات الأم "ست الحبايب" وغيرها...
اتسمت فايزة أحمد بالجرأة وجازفت بالتعاون مع المواهب الجديدة ومن بينهم بليغ حمدي. ثم حظي زوجها الموسيقار الراحل محمد سلطان بنصيب وافر من تلحين أغنياتها وأخذت بيده إلى الشهرة والنجومية في مستهل رحلته الفنية، ولعل ما ميز أغنياتهما أنها حملت إيقاعات تسبق عصرها، ما يجعل الأجيال التي لم تعاصرها تستسيغ هذه الألحان الرشيقة ومنها "دنيا جديدة" و"بكرة تعرف" و"تاهت خطاوينا" و"حبيتك وبداري عليك" و"على وش القمر" وغيرها.
لكنها لم تفضل ملحناً على آخر، إذ تقول في أحد اللقاءات التلفزيونية إن الفن مثل الفاكهة فيه أذواق مختلفة وكل ملحن له أسلوبه وإحساسه الذي يضيفه إليها.
شاركت في السينما عبر 6 أفلام ومنها "تمر حنة" و"المليونير الفقير" و"أنا وبناتي"، ولم تكمل مسيرتها في التمثيل الذي لجأت إليه بحثاً عن الانتشار خلال مرحلة ما، لكن لم تصل الى مصاف النجومية فيه كشأن كثيرات من جيلها مثل صباح ونجاة وشادية، لكنها تركت رصيداً غنائياً حافلاً يتجاوز 320 أغنية إذاعية و80 أغنية في التلفزيون.
صراعات وغيرة
عاشت فايزة أحمد في منافسة محمومة وسباق دائم ولم تفارقها الغيرة المهنية، وترسم الحكايات التي وصلتنا عنها صورة ذهنية لإنسانة متقلبة المزاج ومندفعة وعصبية وصراحتها مفرطة؛ فخسرت اجتماعياً وفنياً وعانت بسبب زلات لسانها. واشتهرت في الوسط الفني بكثرة مشاجراتها مع الكثيرين ومنهم صباح ووردة وشادية ونجاة وحتى الموجي وبليغ حمدي وعبدالوهاب.
ويرجّح بعضهم أنّ الشعور بالنقص لازمها رغم موهبتها الفياضة، ما ولّد لديها أزمات نفسية أثرت على اعتلال صحتها دائماً قبل أن تُصاب بالسرطان وتخوض رحلة معاناة مريرة. وقالت فايزة في أحد اللقاءات: "عندما أجد شخصاً قدم لحناً أو أغنية أفضل مني كنت أصاب بتعب المعدة، ليس من منطلق الكراهية لكن بدافع الحماس والغيرة الفنية والرغبة في التميز".
فرغم ما تمتعت به من موهبة وشهرة، ظلت واقعة تحت ضغط عصبي بسبب حبها للفن وسعيها للكمال وتقديم أفضل الاغنيات، وتولدت لديها أزمة ثقة بنفسها وشكلها، بفعل تعرضها للسخرية من سلوكها وشكلها على صفحات الجرائد، ولكن هذه الحدة في الطباع لم تكن نابعة من شخصية شريرة، إذ ثمة وجه آخر وديع يكشفه زوجها "سلطان" في أحد اللقاءات التلفزيونية بقوله إنها كانت طيبة إلى حد السذاجة وذات قلب حنون بحيث كانت تعطف حتى على الحيوانات فتخرج خلال الليالي الباردة لإطعام كلاب الشارع وقططه، فضلاً عن أنها متواضعة وحريصة على مجالسة الخدم والعمّال وتناول الطعام معهم.
في آخر أيامها، ندمت أحمد على هذه الصراعات وصرحت خلال حوار إذاعي قائلة: "أشعر أن الإنسان عبيط لخوضه تلك المعارك، ربما حدثت بفعل صغر السن وعدم إدراك الصواب فلا شيء يستحق. المنافسة ضرورية في كل مجال، إذ تخلق الإبداع".
نفس حائرة
مرت حياتها الشخصية بمنعطفات مؤلمة، إذ بحثت طوال حياتها عن حنان الأب والاستقرار الذي افتقدته في طفولتها، فخاضت قصص حب وزواج متعددة، بحيث تزوجت 5 مرات، أولها بعمر 13 عاماً من السوري عمر نعامي، الذي أساء معاملتها، ومختار العابد وأنجبت منه ولداً وفتاة وانفصلا فاختطف أطفالهما إلى سوريا، فذاقت مرارة الحرمان منهما طوال حياتها.
عُدّت زيجتها بمحمد سلطان التي استمرت 17 عاماً هي الأنجح، رغم أنه يصغرها بسبع سنوات، هي التي التقته في منزل فريد الأطرش في بداية مسيرته وأعجبت به، وبدهاء الأنثى توددت إليه ومنحته الفرصة للتلحين لها، حتى كتب الصحافي «بديع سربيه» أن ثمة علاقة تجمعهما، فانزعجت فايزة وتحدثت لسلطان باكية أن سمعتها على المحك، فتأثر لدموعها وعرض عليها الزواج، رغم أنه لم يكن يحبها وقتها.
شكّل سلطان وفايزة ثنائياً في الفن والحياة وأنجبا ابنين، وحقق معها مجده الفني، إذ تركت ألحان كبار الملحنيين من أجله، وقد تعود عوامل نجاح هذه العلاقة إلى سلطان نفسه، إذ أحبها بصدق وكان نبيلاً وراقياً ودمث الخلق واستطاع احتواءها متحملاً عصبيتها وتقلباتها، وهي من ألحت على الطلاق عند انفصالهما، وتزوجت بعده زيجة فاشلة، وأصيبت بـ "سرطان الثدي" وساءت حالتها فتأثر سلطان وعاد اليها فتزوجها مرة أخرى قبل 20 يوماً من وفاتها في أيلول/ سبتمبر 1983.
بعد رحيلها، أصيب بحزن شديد، وتزوج بعدها زيجة فاشلة، ثم عاش سنواته الباقية على ذكراها.