نجيب محفوظ الأوديبي المتخفي خلف نسائه

نجيب محفوظ الأوديبي المتخفي خلف نسائه
نجيب محفوظ
Smaller Bigger

ما زال نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) في ذكراه الـ113 الرمز الأكبر للرواية العربية. ويفترض أن كل قراءة له تؤسس منظوراً جديداً في تلقيه.
وعند ربطه بالمفهوم الأوديبي الذي صكه فرويد؛ فهذا يثير ثلاث إشكاليات، أولاها أن فرويد نفسه اتُهم بالتعسف في فهمه لمسرحية سوفوكليس "أوديب ملكاً"، بمعنى أنه كانت لديه نظرية جاهزة ثم أسقطها على الدراما دون أن يكون واعياً بالنص وسياقه وعصره.
وثانيتها: لا أحد يخلو من الملمح الأوديبي لكن الفروق تتبين في مستوى حدته والتثبت عنده والقدرة على التسامي عليه.
وأخيراً ثمة ارتباط أزلي بين الأوديبية والتراجيديا، وما دام مجمل إبداع محفوظ تراجيدياً بامتياز، فهذا يعني قطعاً الحضور الطاغي للأوديبية. ما ينقلنا إلى محاولة استقصاء المفهوم عبر السيرة والنص المحفوظي.

 

 

علاقة مع الأم
كان محفوظ أصغر إخوته وبفارق في السن، لذلك بدا طفلاً وحيداً يقضي جل وقته في صحبة أمه فاطمة قشيشة، وعن طريقها زار المتاحف وتعلق قلبه بهويته المصرية، كما كانت ـ برغم أميتها ـ مخزناً للثقافة الشعبية، وابنة شيخ أزهري، انتقلت منه جينات حب محفوظ للثقافة العربية والإسلامية.
أي أن التأثير الأكبر في تكوينه كان ثمرة ارتباطه بأمه، والتي استمرت في رعايته حتى بلغت من الكبر عتياً، وألحت على أن يتزوج من قريبتها الثرية.
بحسب فرويد، تعني الأوديبية تعلق الولد بأمه، إلى درجة أنه يغار عليها من الأب ويكرهه، وربما يتخلص منه باعتباره منافساً له على قلبها.
وتكشف سيرة محفوظ بجلاء هذا التعلق الشديد بالأم، ليس في طفولته فقط، بل حتى بلوغه الخامسة والأربعين حينما قرر الزواج.

الزوجة عطية الله
رفض محفوظ العروس الثرية التي رشحتها أمه، ثم تعرف على "عطية الله" على بلاج الإسكندرية. كان زواجاً تقليدياً، فلم يفضلها كاتبة أو فنانة، بل "ست بيت" تكمل ما بدأته أمه، وفرت له الهدوء ورتبت له مواعيد كل شيء، واعتنت بالورد في شرفة بيته.
ارتضت أن يبقى زواجها سراً لسنوات، مثلما حاولت عند رحيلها أن تدفن في صمت عام 2014 ولا يخفى هنا أنه اختارها بمنطق بديل الأم.

أم كلثوم
أكثر امرأة يتردد صداها في سيرة محفوظ وأدبه هي أم كلثوم، فعندما أنجب ابنتين حملت إحداهما اسم والدته "فاطمة" (وبالمصادفة هو اسم والدة أم كلثوم أيضاً)، والأخرى أسماها "أم كلثوم".
وتكررت الإشارة إليها وإلى أغانيها كثيراً في رواياته وقصصه وأحلامه وأصداء سيرته الذاتية.
ولأنه من كبار "السميعة" كافأته الست بأن حضرت احتفال الأهرام بعيد ميلاده الخمسين، في سابقة نادرة الحدوث.
كما يشترك الاثنان في الولادة في شهر كانون الأول/ ديسمبر (إذا اعتمدنا الرواية الشائعة عن تاريخ ميلاد أم كلثوم)، وعلاقتهما الوطيدة بشيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، والبراعة في العزف، أم كلثوم على العود ومحفوظ على القانون.
علاقة استثنائية تعكس بديلاً أمومياً، ليس فقط لأن أم كلثوم كانت تكبره ببضع سنوات، بل لأنها تمثل حضوراً أمومياً مترفعاً، لا تشبه غيرها من المغنيات المولعات بقصص الغرام والطلاق والزواج. فاختيارها للقب "الآنسة" يعني أنها ليست زوجة لشخص بعينه، وحين تزوجت في سن متأخرة مثله (بعدما تجازوت الخمسين)، لم تكن فكرة الإنجاب مطروحة، لأنها فضلت أن تبقى أماً للجميع ولا تخدش صورتها المثالية. فحضورها في لا وعي محفوظ يجسد نموذجاً أمومياً سامياً، لا يتورط في ما هو شهواني وأرضي ومبتذل.

 

الابن الطريد
تنمذج أسطورة أوديب تصوراً تراجيدياً مشوهاً ومضاداً لمفهوم الأسرة المقدس كما طورته الأسطورة المصرية القديمة "إيزيس وأوزيريس وابنهما حورس" ثم رسخته الديانة المسيحية.
الأب لايوس ملك طيبة والأم جوكاستا، حين يتأخر الإنجاب يستشيران عرافاً فيخبر الملك أنه سينجب ولداً يقتله ويتزوج أمه، ولما ولد أوديب (ومعناه متورم القدمين) يرسله مع أحد الرعاة للتخلص منه.
أي أن الولد بدأ حياته بإعاقة ـ تقييد قدميه ـ منفصلاً عن الرعاية الإلهية، والملكية، وطريداً من المملكة.
ثم يعود ويحل لغز "أبي الهول" ويتشاجر مع والده ـ وهو لا يعرفه ـ فيقتله. سواء وقع القتل مادياً أو معنوياً، فهو يؤشر لصراع الأجيال، وكيف يطمع الأبناء في إرث الآباء.
كما تدل رحلة الطرد والعودة، إلى سمة أساسية في البطل التراجيدي، يتردد صداها كثيراً في روايات محفوظ، منها شخصيات "الحرافيش" التي تعرض معظمها للطرد/العودة، أو البحث عن الأب كما في "الطريق"، أو غياب الأب وإزاحته منذ البداية كما في "قلب الليل"، وحتى عندما يعلم "جعفر الراوي" أن والده طريد سابق للجد الكبير من قصره، يتعرض الابن مجدداً للطرد، ويظل يحلم بالعودة. ألا يذكرنا ذلك كله بطرد الأب الأول آدم من الجنة؟ وفي "اللص والكلاب" كان سعيد مهران يتيم الأب وجد في الشيخ الجنيدي أباً بديلاً، كما تعرض للطرد من حياته بفعل خيانة زوجته وصديقه، وبعد خروجه من السجن عاد إلى الحارة منتقماً.
إن معظم أبطال محفوظ كُتب عليهم شقاء الطرد وعناء العودة أملاً في الحب أو السعادة أو الخلود أو الانتقام وإقامة عدالة مستحيلة أو التصالح مع الأب الرمزي.

العاهرة القديسة
يكتمل الثالوث بالأم جوكاستا، فهي قديسة لأنها أنجبته، وعاهرة لأنها وقعت في محظور السفاح، وتزوجت ابنها.
تقدم شخصيتها تفسيراً مدهشاً لولع محفوظ في تصوير العاهرات في رواياته، وكثيرات منهن "مقدسات" أو تائبات أو أمهات رائعات، "فلة" زوجة عاشور الناجي الكبير وأم سلالة الفتوات، كانت في الأصل عاهرة تعمل في حانة، ومعظم أبنائها مروا بعلاقات خطرة مع عاهرات، و"نور" العاهرة في "اللص والكلاب" كانت الملاذ والحضن لسعيد مهران المطارد من الجميع، ولا يختلف دورها كثيراً عن "ريري" مع "عيسى الدباغ" في "السمان والخريف".

وعي مزدوج
تُعالج الأوديبية الولادة المشؤومة، وحتمية القدر وعجز الإنسان عن تغيير مصيره مهما أوتي من قوة وذكاء، والانقلاب المفاجئ من النقيض إلى النقيض، من العرش إلى القبر، والطرد والاغتراب، والأشواق الوامضة في سبيل المجد والخلود. مثلما تعكس الصراع المزدوج تجاه الأب، ما بين التبجيل والتقديس، والكراهية والقتل والرغبة في أخذ مكانه، والوعي المزدوج بالأم كسيدة مقدسة ولدت ابنها، وعاهرة خاطئة حين تصبح امرأته.
في المأساة الإغريقية تثبتت مأساة البطل، وكذلك في معظم قصص محفوظ، أما محفوظ نفسه الأوديبي المتخفي، فقد سعى للتجاوز والتحرر وقبول تلك التناقضات لأنها في صميم وجودنا الإنساني.








الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/6/2025 12:01:00 AM
لافتات في ذكرى سقوط نظام الأسد تُلصق على أسوار مقام السيدة رقية بدمشق وتثير جدلاً واسعاً.
المشرق-العربي 12/6/2025 1:17:00 PM
يظهر في أحد التسجيلات حديث للأسد مع الشبل يقول فيه إنّه "لا يشعر بشيء" عند رؤية صوره المنتشرة في شوارع المدن السورية.
منبر 12/5/2025 1:36:00 PM
أخاطب في كتابي هذا سعادة حاكم مصرف لبنان الجديد، السيد كريم سعيد، باحترام وموضوعية، متوخياً شرحاً وتفسيراً موضوعياً وقانونياً حول الأمور الآتية التي بقي فيها القديم على قدمه، ولم يبدل فيها سعادة الحاكم الجديد، بل لا زالت سارية المفعول تصنيفاً، وتعاميم.
ايران 12/4/2025 7:49:00 PM
واشنطن ترصد 10 ملايين دولار للإبلاغ عن الخبيرة الإلكترونية الإيرانية فاطمة صديقيان المتهمة بهجمات سيبرانية على بنى تحتية أميركية