تأملات رودي رحمة الفلسفية... بالريشة والإزميل!

"تفتح الزمن" هو عنوان معرض الرسّام والنحات والشاعر رودي رحمة، الذي أقيم في غاليري مودوس في باريس، وفيه قدّم الفنان اللبنانيّ مجموعة من منحوتاته ولوحاته التي تعبّر عن حركة الزمن في مختلف أشكاله وتجلياته.
الانحناءات هي الشكل الطاغي على مجمل تلك الاعمال، قد نراها من خلال أجسادٍ راقصة أو عبر تجاعيد امرأةٍ مسنّة مسنّة أو ربما بحركة شعرٍ مفرود...
أعمال رحمة المصنوعة من طين وخشب وصخر وبرونز لا تبدو مصنوعةً من معادن ومواد صلبة، بل إنها لمن يراها سلسة، طيّعة، فكأنها معجونة بالماء والهوا والريح. وهذا ليس غريباً على ابن بشري، ابن الطبيعة بثلوجها وعواصفها وصخرها وأشجارها.
هو الذي اعتاد أن يعجنها بيديه مذ كان طفلا صغيراً يلهو بين السهول والجبال والوديان،
المكان عند رودي رحمة من العوامل المهمة والمؤثرة جداً في تكوين رودي رحمة الفنيّ والانساني. عجنها وعجنته، أعطته وأعطاها، ولهذا نراه يتعامل مع كافة المواد بتلقائيةٍ وحميميةٍ كبيرتين. وفي هذا الصدد يقول رحمة: "تشكّل وعيي أولا في المكان الذي رأيت من خلاله الدنيا وما فيها، وادي قنوبين وجبل المكمل وغابة الأرز. وما يشاهده الطفل بين السادسة والثانية عشر من عمره هو أكبر خزّان يؤثر في لاوعيه حتى مراحل متقدمة من حياته. وأنا فعلا تشربت من هذا ذاك المكان الذي عشتُ فيه، من ألوانه وفصوله وحياته الداخلية. كنتُ أراقب تجاعيد الشجر من حولي، أراقب غصون الارز المفتوحة كأنها تبحث عن العالم الأكبر كي تغمره بين يديها. كنتُ شديد التأثر في هذه الطبيعة وتجلياتها".
ورغم تعلّقه بمكانه الأول، بشرّي، فإنّ رودي رحمة يُصرّ أنّ عشقه للطبيعة جعله يشعر بانتمائه الى الانسانية أكثر من انتمائه الى لبنان أو الشرق أو أي مكان آخر".
من يُراقب لوحات رحمة ومنحوتاته يُدرك تماما هذا البعد الانساني المتجذر في أعمالٍ تتبنى تيماتٍ مشتركة بيننا جميعاً، على خلافاتنا واختلافاتنا.
الزمن مثلا تيمة أساسية، وهو من الثوابت الحاضرة في حياة كلّ الناس. يمرّ عليهم بالتساوي، من دون أيّ تمييز بين شخصٍ وآخر. والألم أيضا موجود، نراه عبر صرخات نستشعرها في تأوّه بعض الأجساد، أو في زوبعة غضبهم.
هذا الوجع رديفٌ للحياة وكأسٌ يتجرّعه الجميع، من دون استثناء. أما الثيمة الثالثة التي تميز معرض رحمة هي الحركة.
ولا شكّ أنّ الحركة هي جزء أساسي من وجود الإنسان، بل الكون كلّه. هذه الحركة تأخذ شكلا لولبياً في اللولبية في معرض رودي رحمة. انها أشبه بدوائر مفتوحة تعطي الرائي اليها شعوراً بأنه أمام لوحة راقصة تقود الى شيءٍ من التجلي أو القيامة أو ربما الصعود نحو السماء السابعة.
تحمل منحوتات رحمة ورسماته جرعة عالية من الخيال. ولعلّ منبع الخيال هنا آتٍ من اتحاد عناصر الحياة الاربعة: الهواء، التراب، الماء، والنار.
صحيح أن الهواء (الريح) هي الصورة الأولى التي نلحظها في أعماله، لكنّ الماء حاضر في ايضا سلاسة الحركة، والنار في سرعتها، والتراب في ألوانها.
قد تشعر احيانا أنّ المنحوتات تعبّر عن شخصيات اسطورية، بحكمتها العالية، بوجعها الاغريقي، بهاماتها المتماوجة، برؤوسها المرتفعة، بشغفها المطلق... فهذا يذكرك ببروميتي التوّاق لالتقاط النار، وذاك بأومبيدوقل الذي تختلط عنده غريزة الحياة بدافع الموت...
ولعلّ البُعد الأسطوريّ في أعماله/ شخصياته هو نتاجُ إيمانه العميق بقوة الانسان وقدرته على تجاوز ألمه ومتاعبه وتحدياته. والنموذج اللبناني- الذي ينتمي اليه الفنان نفسه- هو مثالٌ حيّ لمعنى الصمود والتخطي رغم خشونة الحياة وتعدّد صدماتها.
قد يكون رودي رحمة أقرب الى المدرسة الفنية الكلاسيكية في فنّه، لكنّه يبقى منفتحاً دوماً على التجديد حيناً والتجريب في أحيانٍ أخرى. ولهذا فإنّ تصوراته الجمالية في حالة تطور مستمرّ.
استخدم رودي رحمة في هذا المعرض الباريسيّ تقنية Sculpeinture، جامعاً بين الريشة والازميل، ليقدّم بهما مجموعة من اللوحات والمنحوتات الغنية بقيمتها الفنية ودلالتها الفلسفية.
"تفتّح الزمن" معرض جديد يؤكد أنّ خلف أعمال رودي رحمة، النحات والفنان والشاعر، يقف رحمة المفكّر والمتأمّل الدائم في طبيعة الانسان عبر الازمان.