مشروع نزع السيادة والخطر الوجودي على لبنان

منبر 29-12-2025 | 09:26

مشروع نزع السيادة والخطر الوجودي على لبنان

لم تعد التطورات المتسارعة على الحدود الجنوبية للبنان وفي الجنوب السوري أحداثا منفصلة أو أزمات ظرفية يمكن احتواؤها بالبيانات أو المساعي الديبلوماسية.
مشروع نزع السيادة والخطر الوجودي على لبنان
جنوب لبنان
Smaller Bigger

أكرم بزي

 

 

 

لم تعد التطورات المتسارعة على الحدود الجنوبية للبنان وفي الجنوب السوري أحداثا منفصلة أو أزمات ظرفية يمكن احتواؤها بالبيانات أو المساعي الديبلوماسية. ما يجري اليوم يكشف عن مسار واحد متكامل يربط الساحتين من ضمن مشروع يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية والأمنية في المشرق على حساب الدول المنهكة والهشة. في هذا السياق، يبرز لبنان بصفته الحلقة الأخطر بحيث يتحول التهديد من ضغط أمني محدود إلى خطر وجودي يطاول فكرة الدولة نفسها ودورها وحدودها.

في جنوب سوريا يتصاعد الحديث عن ترتيبات تقوم على فرض مناطق منزوعة السلاح تدار خارج منطق السيادة الكاملة للدولة. هذه الطروحات لا تقدم باعتبارها احتلالاً مباشراً أو ضماً رسمياً، بل تسوّق تحت عناوين أمنية وتقنية فيما هي في جوهرها محاولة لإخراج مساحات واسعة من القرار الوطني وتحويلها إلى فراغ قابل للإدارة الخارجية. الأخطر في هذا المسار أنه يراكم وقائع بطيئة وثابتة تفرغ الدولة من مضمونها من دون ضجيج سياسي كبير.
ولا يمكن فهم خطورة ما يجري من دون التوقف عند حجم الجغرافيا المستهدفة. فالمناطق التي يطرح إخضاعها لمنطق السيطرة الأمنية في الجنوب السوري تشمل ثلاث محافظات أساسية القنيطرة بمساحة تقارب 1200 كيلومتر مربع، ودرعا بنحو 3730 كيلومتراً مربعاً، والسويداء التي تبلغ مساحتها حوالى 5500 كيلومتر مربع. أي أن مجموع هذه المساحات يصل إلى نحو 10430 كيلومتراً مربعاً وهو رقم يكاد أن يوازي مساحة لبنان البالغة قرابة 10452 كيلومتراً مربعاً. هذه المقارنة ليست تفصيلاً تقنياً بل دلالة سياسية مباشرة لأنها تعني أن ما يراد فرضه جنوب سوريا هو نموذج سيطرة على مساحة تعادل دولة كاملة لا مجرد شريط حدودي ضيق.
في المقابل لا يقف لبنان خارج هذا المشهد. فالضغط العسكري المتواصل على الجنوب والتصعيد المدروس وتحويل الاعتداءات إلى حدث اعتيادي، كلها عناصر تهدف إلى إنهاك الدولة اللبنانية ودفعها تدريجاً نحو القبول بمعادلات مفروضة بحكم الأمر الواقع. الخطر هنا لا يكمن في احتمال اندلاع مواجهة واسعة فحسب بل في تآكل مفهوم السيادة على نار باردة، بحيث يصبح التراجع أمراً مألوفاً وتتحول الاستثناءات إلى قواعد دائمة.
تتقاطع الساحتان السورية واللبنانية عند نقطة واحدة هي استغلال ضعف الدولة المركزية والانقسام الداخلي لفرض وقائع أمنية تتحول لاحقاً إلى وقائع سياسية. في سوريا يطرح نزع السلاح بذريعة منع التهديدات، وفي لبنان يعاد إنتاج الخطاب نفسه تحت مسميات مختلفة من تحييد الجبهة إلى ضبط الحدود، فيما النتيجة واحدة وهي تفريغ الدولة من أدوات القوة وتحويلها إلى كيان إداري محدود الصلاحيات عاجز عن فرض خياراته السيادية.
الأطماع الإسرائيلية في هذا السياق لا يمكن اختزالها بالبعد العسكري المباشر. فالتجربة أثبتت أن السيطرة غير المباشرة أقل تكلفة وأكثر استدامة من الاحتلال الصريح. لذلك يجري الاستثمار في إدارة الفوضى وفرض مناطق منزوعة السيادة بدل السيطرة المباشرة، بما يبقي الدول المحيطة في حالة شلل دائم عاجزة عن بناء توازن ردع أو تحقيق استقرار سياسي حقيقي. هذا النموذج لا يقوم على الحسم بل على الإبقاء على الأزمات مفتوحة وقابلة للتحكم.
في لبنان تتضاعف المخاطر بسبب الواقع الداخلي المأزوم من فراغات سياسية وانقسامات حادة إلى أزمة اقتصادية خانقة. في ظل هذا الواقع يصبح أي ضغط خارجي مضاعف التأثير وتتحول التسويات الموقتة إلى تنازلات دائمة. هنا تبرز مسؤولية الحكومة اللبنانية التي لا يمكن أن تكتفي بإدارة الوقت أو الاكتفاء بالديبلوماسية اللفظية بل يفترض أن تمتلك رؤية وطنية واضحة تربط بين ما يجري في سوريا وما ينعكس مباشرة على لبنان، وتعيد تعريف الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها.
فصل الساحتين ليس مجرد خطأ في التقدير بل وهم خطير. فما يفرض اليوم جنوب دمشق يمكن أن يتحول غداً إلى نموذج يراد تعميمه جنوب الليطاني أو أبعد من ذلك. وعندما تستهدف مساحة في سوريا تعادل مساحة لبنان تقريباً يصبح السؤال وجودياً هل لبنان محصّن فعلاً أم أنه الهدف التالي في مسار إعادة تشكيل المنطقة وفق معادلات تدار من الخارج؟
ما يجري اليوم ليس اختباراً أمنياً عابراً بل لحظة مفصلية ستحدد مستقبل لبنان ودوره في الإقليم. إما أن يدرك اللبنانيون دولة وشعباً أن الجنوب السوري ليس ساحة بعيدة بل إنذار مبكر لما يحضر للبنان، وأن المطلوب ليس الاكتفاء بالإدارة أو المراهنة على الوقت بل مقاومة هذا المشروع الخبيث سياسياً ووطنياً وشعبياً، ورفض تحويل البلاد إلى جغرافيا منزوعة السيادة والإرادة. ويأتي التدمير الممنهج لقرى المواجهة الحدودية في الجنوب اللبناني دليلاً صارخاً على أن إسرائيل لا تكتفي بفرض وقائع أمنية موقتة بل تسعى إلى تفريغ هذه المنطقة من أهلها تمهيداً للسيطرة عليها وضمها فعلياً، ليس بصفتها حزاماً أمنياً فحسب بل كأرض منزوعة السكان والحقوق. أو يترك المسار ينزلق تدريجاً نحو واقع تنزع فيه السيادة قطعة قطعة. في لحظات كهذه لا يكون الخطر في الضربة المباشرة بل في الاعتياد على التراجع إلى أن يصبح الوطن نفسه موضوع تفاوض.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/27/2025 1:57:00 PM
قوة للجيش الإسرائيلي، مؤلفة من ست آليات عسكرية، دخلت من اتجاه التلول الحمر، مروراً بالمنطقة الواقعة بين بلدتي بيت جن وحضر، وصولاً إلى قرية طرنجة.
المشرق-العربي 12/27/2025 3:25:00 PM
وقعت وزارة الدفاع العراقية في 2024 عقداً مع شركة إيرباص لشراء مروحيات H225M كاراكال، في إطار خطة لتحديث أسطول طيران الجيش وتنويع مصادر التسليح بين الشرق والغرب.​
المشرق-العربي 12/27/2025 4:36:00 PM
صودرت المضبوطات وفق الأصول القانونية المعتمدة، فيما أحيل المقبوض عليه إلى القضاء المختص لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه.
المشرق-العربي 12/28/2025 9:46:00 AM
يواجه الفلسطينيون في غزة مأساة إنسانية