مشروع ردّ الودائع بين الضرورة والإصلاح: هل يعالج الأزمة أم يكرّسها؟

منبر 26-12-2025 | 11:05

مشروع ردّ الودائع بين الضرورة والإصلاح: هل يعالج الأزمة أم يكرّسها؟

بعد أكثر من أربع سنوات على الانهيار المالي الأكبر في تاريخ لبنان الحديث، عاد ملف الودائع المصرفية إلى واجهة النقاش السياسي والاقتصادي مع تقديم الحكومة مشروع قانون يهدف إلى ردّ الودائع التي تقلّ عن 100 ألف دولار، عبر دفعات شهرية تصل إلى ألفي دولار، على مدى أربع سنوات
مشروع ردّ الودائع بين الضرورة والإصلاح: هل يعالج الأزمة أم يكرّسها؟
مشروع ردّ الودائع بين الضرورة والإصلاح: هل يعالج الأزمة أم يكرّسها؟
Smaller Bigger

د.علي حمّود

 

بعد أكثر من أربع سنوات على الانهيار المالي الأكبر في تاريخ لبنان الحديث، عاد ملف الودائع المصرفية إلى واجهة النقاش السياسي والاقتصادي مع تقديم الحكومة مشروع قانون يهدف إلى ردّ الودائع التي تقلّ عن 100 ألف دولار، عبر دفعات شهرية تصل إلى ألفي دولار، على مدى أربع سنوات. وبين الترحيب الحذر والتشكيك المشروع، يبرز سؤال أساسي: هل يشكّل هذا القانون مدخلًا فعليًا للتعافي المالي أم أنه محاولة جديدة لإدارة الأزمة من دون معالجتها جذريًا؟

لا شكّ في أن مجرد الاعتراف الرسمي بحقوق المودعين يُعد تطورًا سياسيًا واقتصاديًا بعد سنوات من الإنكار والمماطلة. فالمشروع، بحسب الحكومة، يشمل نحو 85 في المئة من المودعين، أي صغار ومتوسطي الحسابات، ما يخفف جزئيًا من الضغط الاجتماعي في بلد تراجعت فيه القدرة الشرائية إلى مستويات غير مسبوقة، وتآكلت فيه الطبقة الوسطى بشكل شبه كامل. كما يبعث القانون برسالة أولية إلى المجتمع الدولي مفادها أن الدولة اللبنانية بدأت، ولو متأخرة، مقاربة جوهر الأزمة بدل الاكتفاء بالحلول النقدية الموقتة.
لكن القراءة المتأنية لبنية المشروع تكشف عن ثغرات جوهرية. فالقانون يفصّل مسألة ردّ الودائع عن الإطار الأشمل للإصلاح المالي والمصرفي، من دون تحديد واضح لحجم الخسائر أو آلية توزيعها. فلا شطب فعليًا لرؤوس أموال المصارف، ولا مساءلة لإداراتها أو لمساهميها الذين استفادوا من الهندسات المالية والأرباح غير العادية خلال السنوات التي سبقت الانهيار. وبهذا المعنى، يُخشى أن يتحوّل المشروع إلى عبء إضافي على المالية العامة، أو إلى قصّ مقنّع يطال المودعين الكبار من دون إعلان صريح أو ضمانات عادلة.
ويزداد القلق في ظل غياب الشفافية حول مصادر تمويل عملية ردّ الودائع، والجهة التي ستتحمّل الكلفة النهائية. فإعادة الودائع من دون تحديد المسؤوليات بوضوح قد تعني عمليًا نقل الخسائر من القطاع المصرفي إلى الدولة، أي إلى دافعي الضرائب الحاليين والمستقبليين، ما يكرّس منطق الإفلات من المحاسبة بدل تصحيحه.
الأخطر أن القانون يُطرح بمعزل عن خطة تعافٍ متكاملة. فتوحيد سعر الصرف، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وضبط العجز المالي، تبقى إما غائبة أو مؤجَّلة، في حين أن أي إعادة جزئية للودائع في اقتصاد يعاني من فوضى نقدية، ومن انعدام الثقة، لن تؤدي إلى تحفيز الاستثمار أو استعادة النمو. أما تحويل الودائع التي تتجاوز الـ 100 ألف دولار إلى سندات قابلة للتداول، من دون ضمانات سيادية أو دولية واضحة، فيحمل مخاطر إضافية قد تُترجم بخسائر جديدة بدل حماية الحقوق.

وعلى صعيد العلاقة مع المؤسسات الدولية، يشكّل المشروع خطوة ضرورية لكنها غير كافية. فصندوق النقد الدولي، ووكالات التصنيف الائتماني، وهيئات الامتثال المالي، وعلى رأسها مجموعة العمل المالي (FATF)، لا تكتفي بقوانين جزئية، بل تنظر إلى مسار إصلاحي متكامل يعيد الثقة بالدولة والنظام المالي. وفي صيغته الحالية، قد يحسّن القانون صورة لبنان تقنيًا، لكنه لن يفتح باب التمويل الخارجي أو يخفّض كلفة المخاطر ما لم يُرفق بإصلاحات بنيوية واضحة وجدول زمني قابل للتنفيذ.

في المقابل، لا يزال البديل الممكن متاحًا، إذ يمكن تحويل قانون ردّ الودائع إلى رافعة تعافٍ حقيقية، إذا أُدرج ضمن خطة شاملة تقوم على توزيع عادل للخسائر، بدءاً بالمساهمين في المصارف، مرورًا بالأرباح الاستثنائية التي تحققت بعد عام 2015، وصولًا إلى كبار المستفيدين من النظام الريعي. كما يمكن إنشاء صندوق وطني مستقل لحماية الودائع، يُموَّل من أصول الدولة المنتجة بعد إصلاحها، ويُدار برقابة صارمة محلية ودولية تضمن الشفافية والعدالة وتمنع تكرار التجربة.

في الخلاصة، إن قانون ردّ الودائع، بصيغته الحالية، أفضل من استمرار الفراغ، لكنه لا يرقى إلى مستوى الحل الشامل. فهو خطوة لإدارة الانهيار لا لإنهائه، ومحاولة لاحتواء الغضب الاجتماعي أكثر مما هو مشروع لإعادة بناء الثقة. أما تحويله إلى مدخل فعلي للتعافي، فيتطلب شجاعة سياسية في كشف الخسائر، وعدالة اقتصادية في توزيعها، ورؤية إصلاحية تربط حقوق المودعين بإعادة بناء الدولة والاقتصاد، لا بتدوير الأزمة وتأجيل انفجارها.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
المشرق-العربي 12/25/2025 12:34:00 PM
الداخلية السورية: العملية تأتي تأكيداً على فاعلية التنسيق المشترك بين الجهات الأمنية الوطنية والشركاء الدوليين
المشرق-العربي 12/25/2025 1:41:00 PM
العلاقات السورية - الإسرائيلية معقدة، ولم يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاقية أمنية رغم المساعي الديبلوماسية.