ماذا بقي من الإقطاع في لبنان؟

منبر 26-12-2025 | 10:59

ماذا بقي من الإقطاع في لبنان؟

غالباً ما تتردد كلمة "إقطاع" في الأحاديث والنقاشات السياسية في لبنان، للدلالة على نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بائد، فيتراءى للمرء للوهلة الأولى أن تلك الكلمة أصبحت من الماضي السحيق، ظنّاً أو اعتقاداً أن هذا البلد واكب الحداثة وتخطى تلك المرحلة التي اتسمت بالإقطاعيين من ذوي النفوذ والإمرة، أو مغالاة في واقعية دفن الرؤوس في الرمال. 
ماذا بقي من الإقطاع في لبنان؟
تظاهرات في وسط بيروت (عن النترنت)
Smaller Bigger

المحامي جوزف ف. فرح

 

 

غالباً ما تتردد كلمة "إقطاع" في الأحاديث والنقاشات السياسية في لبنان، للدلالة على نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بائد، فيتراءى للمرء للوهلة الأولى أن تلك الكلمة أصبحت من الماضي السحيق، ظنّاً أو اعتقاداً أن هذا البلد واكب الحداثة وتخطى تلك المرحلة التي اتسمت بالإقطاعيين من ذوي النفوذ والإمرة، أو مغالاة في واقعية دفن الرؤوس في الرمال. 
فهل إن الإقطاع بات بالفعل جزءاً من نظام بائد؟ أم هل بقي منه شيء؟ وماذا بقي بالفعل من الإقطاع في لبنان؟ 

للإجابة عن هذه الأسئلة، يقتضي تعريف الإقطاع ورسم صورة واضحة عن الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي في البلد، لتبيّن إن كان الإقطاع لا يزال قائماً، جزئياً أم كلياً.
فالإقطاع هو نظام اقتصادي، اجتماعي وسياسي ظهر في أوروبا في العصور الوسطى ويقوم على امتلاك الأرض باعتبارها مصدر الثروة والسلطة. ومن مظاهر هذا النظام الإقطاعي أن الفلاحين يعملون في الأراضي ويقدمون جزءاً من المحصول أو العمل في مقابل الحماية التي يؤمنها لهم الإقطاعي. 
مما لا شك فيه، في ضوء ما سبق، أن الإقطاع لم يعد موجوداً في لبنان كنظام قانوني. فالتمدّن والتعليم والهجرة قد أضعفت الإقطاع التقليدي إلى حدّ بعيد، كما أن نظام الإرتباط بالأرض وبمالكيها لدى الفلاحين والمزارعين لم يعد قائماً وبالتالي زالت ما كانت تعرف بالضرائب الإقطاعية على الأهالي والسكان وتلك السلطة القانونية التي كان يمتلكها "الزعيم الإقطاعي" على رعاياه.
غير أن المتفحص جيداً في تركيبة المجتمع اللبناني، بطوائفه، يلاحظ أن النظام الإقطاعي ما زال يحفر عميقاً في أرضية المجتمع وحاضراً إلى حد كبير، متخذاً أشكالاً سياسية واجتماعية موروثة في مجالات عدة. 
فعائلات سياسية تاريخية لا زالت تسيطر على جزء لا يستهان به من التمثيل النيابي والبلدي في مناطق لبنانية مختلفة. وفي تلك العائلات، لا تزال الزعامة تورّث، وإن بأشكال متعددة، إنما ليس عبر التداول الديموقراطي الفعلي. 
أما لجهة الناس، ففي غياب الولاء التام للبرنامج السياسي، فإنه غالباً ما يكون للزعيم أو للعائلة. 
وليست حال الأحزاب اللبنانية إجمالاً، بغياب قانون عصري ينظم تأسيسها وأطر عملها، بأفضل حال من العائلات السياسية لهذه الناحية، في حين أن العمل الحزبي الصحيح يقتضي أداءً ديموقراطياً سليماً في داخل الأحزاب وخارجها بعكس ما هو عليه واقعها. 
أما الإقطاع الإقتصادي القديم، فقد جرى استبداله بالزبائنية، فتحوّل الإقطاع من امتلاك الأرض إلى امتلاك النفوذ والخدمات؛ وتتجلّى مظاهر هذا الإقطاع المتحوّل في ممارسة الفساد عموماً، بالتدخلات لدى الإدارة والمساعدة في توفير التعليم وتقديم المساعدات الصحية وتأمين الوظائف، الرسمية منها أم الخاصة، وهي حاجات يقتضي أساساً توفيرها من الدولة ومؤسساتها الرسمية كي لا يتحوّل المواطن من صاحب حقوق إلى تابع سياسي في مقابل منفعة. 
وماذا عن الطائفية كشكل من أشكال الإقطاع الحديث؟ 
إن النظام الطائفي في لبنان يعيد على الدوام إنتاج الإقطاع عبر أشخاص مختلفين ضمن معادلة مفادها أن الطائفة هي مجال النفوذ وأن الزعيم هو حامي الطائفة، مما يؤدي إلى ترسيخ الولاءات ما قبل الحديثة ويمنع نشوء دولة مدنية عصرية.
فما بقي من الإقطاع في لبنان الحديث هو ثقافة سياسية وسلوك اجتماعي وليس نظاماً اقتصادياً كما في الماضي، وهذه الثقافة وذاك السلوك لا يقلان سوءاً وضرراً في بنية الوطن عن الإقطاع بوجهه القديم. 
والسؤال عن كيفية كسر الكثير من الإقطاع المتبقي والممارس في لبنان، يقودنا إلى حقيقة مرّة:
فالإقطاع لا يسقط دفعة واحدة، ولا بشعار واحد، ولا بثورة لحظيّة، لأنه متجذر في الخوف ومحمي بالطائفية ومستفيد من الفقر، وهو يضعف كلّما قويت الدولة وتنظّم المجتمع وتراجعت الحاجة. 
إن خارطة الطريق لكسر هذه الثقافة، يقتضي أن ترتكز على كسر الزبائنية على قاعدة أن للمواطن "حقاً"  في الخدمة في دولة مدنية قوية وليس بحاجة الى "واسطة" في دولة ضعيفة. 
وهنا تبرز الحاجة إلى إجراء إصلاحات في قانون الإنتخاب والتركيز على البرامج وليس على الأسماء، وكذلك بناء بدائل محلية على غرار تعاونيات زراعية واقتصادية خارج سيطرة الزعماء وصناديق تكافل غير حزبية أو دينية. 
ويبقى العنصر الأهم في تنظيم الناس لا توعيتهم فقط، لأن الوعي بلا تنظيم يُهزم دائماً أمام المال والعصبية؛ إنها معركة الثقافة اليومية والممارسة الدؤوبة لضرب الوراثة السياسية وكسر الطائفية كدرع واقية للإقطاع.

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
المشرق-العربي 12/25/2025 12:34:00 PM
الداخلية السورية: العملية تأتي تأكيداً على فاعلية التنسيق المشترك بين الجهات الأمنية الوطنية والشركاء الدوليين
المشرق-العربي 12/25/2025 1:41:00 PM
العلاقات السورية - الإسرائيلية معقدة، ولم يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاقية أمنية رغم المساعي الديبلوماسية.