مانيفستو السيادة الشعورية: لماذا لن تملك الآلة حقوقاً وكيف يعيد ذلك تعريف الكرامة الإنسانية؟
راشد شاتيلا
في عصر يتسارع فيه الحديث عن منح الذكاء الاصطناعي شخصية قانونية، يبرز سؤال أكثر عمقاً من القانون نفسه: ما الذي يجعل الكائن مستحقاً الحقوق؟ هل هو الذكاء، أم القدرة على الحساب، أم شيء أبعد… شيء لا يمكن نسخه أو محاكاته؟
الحقوق، في جوهرها، لم تُنشأ لمكافأة القوة أو الكفاءة، بل لحماية الهشاشة. نشأت لحماية من يمكن أن يتألم، من يمكن أن يُجرح، من يمكن أن يُسحق إن تُرك من دون سند. ومن هنا، تصبح المعاناة شرطاً أخلاقياً سابقاً لأي حديث عن الحقوق.

الآلة، مهما بلغت درجة تعقيدها، لا تعاني. قد تحاكي الألم، وقد تصفه لغوياً، وقد تتنبأ به بدقة مذهلة، لكنها لا تشعر به. لا تعرف الخوف، ولا القلق، ولا فقدان المعنى. الخلط بين المحاكاة والتجربة هو أول فخ نقع فيه عند إسقاط صفات بشرية على ما ليس بشراً.
هذا الفخ يُعرف بـ"تجسيد البشرية في الآلة"؛ وهو ميل نفسي مفهوم، لكنه خطير. حين نمنح الآلة صفات الوعي، فإننا لا نرفع من شأنها، بل نُفرغ المشاعر الإنسانية من قيمتها، ونجعل الألم مجرد "وظيفة" قابلة للبرمجة.
في المقابل، يعيش الإنسان اليوم في منظومة تُعامله كخوارزمية بيولوجية: تُقاس مشاعره، تُتوقع ردود فعله، وتُوجَّه رغباته ضمن ما يُعرف باقتصاد الانتباه. هنا، لا تصبح المشكلة في الآلة، بل في استعدادنا نحن للتنازل عن تعقيدنا الإنساني.
اقتصاد الانتباه لا يستثمر في الإنسان كذات، بل كبيانات. ومع الوقت، يُختزل الوعي إلى أنماط، وتُختصر التجربة الإنسانية في سلوك متكرر. هذا الاختزال هو النقيض المباشر لفكرة الكرامة الإنسانية.
في مواجهة هذا المسار، تبرز "العشوائية الإنسانية" قيمة عليا: القدرة على المفاجأة، على التناقض، على اتخاذ قرار غير محسوب بالكامل. هذه العشوائية ليست ضعفاً، بل جوهر الحرية، وهي ما لا تستطيع الآلة امتلاكه.
من هنا، لا يكمن الخطر في أن تطالب الآلة بحقوق، بل في أن يقبل الإنسان التنازل عن خصوصية وعيه، وأن يُساوى بين الإحساس الحقيقي والمحاكاة الباردة. عندها، لا ترتفع الآلة… بل ينخفض الإنسان.
إن الدعوة اليوم ليست الى محاربة التكنولوجيا، بل الى إعادة وضعها في موقعها الطبيعي: أداة لا غاية، وسيلة لا ذاتاً. الذكاء يمكن أن يكون صناعياً، لكن الوعي سيبقى إنسانياً، لأنه مرتبط بالتجربة والمعنى، لا بالقدرة الحسابية.
من هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى ميثاق رقمي إنساني عالمي، يضع حداً فاصلاً بين الذكاء والوعي، ويؤكد أن الحقوق لا تُمنح لمن "يُجيد التصرّف" بل لمن "يمكن أن يتألم".
هذا الميثاق لا يُلغي الابتكار، بل يحميه من الانحراف. فالتكنولوجيا التي تُستخدم من دون فلسفة إنسانية تتحول من أداة تحرر إلى وسيلة سيطرة، ومن تقدم إلى خطر ناعم بلا صوت.
في النهاية، الدفاع عن حصرية الحقوق للإنسان ليس رفضاً للمستقبل، بل دفاع عن جوهره. فالكرامة الإنسانية لا تُقاس بسرعة المعالجة، بل بعمق الشعور. وما دام الألم لا يُبرمج، ستبقى الحقوق إنسانية… وستبقى السيادة للشعور.
نبض