الميلاد… رجاءٌ يولد من رحم الألم في وطنٍ يرفض الاستسلام
جورجيو الهوا
لا يُختصر عيد الميلاد بتاريخٍ محدّد ولا بلحظة عابرة، بل هو حدثٌ يتجاوز الزمن، يحمل في جوهره معنى الخلاص المتجدّد. هو تذكير دائم بأن النور لا يولد في ذروة الضوء، بل في أحلك العتمات. ومن هذا المعنى العميق، يأتي الميلاد إلى لبنان اليوم، وطنًا أنهكته الأزمات، لكنه لم يفقد بعد قدرته على الرجاء.
في الميلاد، لم يولد المخلّص في قصرٍ أو مدينةٍ مزدهرة، بل في مذودٍ متواضع، على هامش السلطة والقوة. تلك الولادة لم تكن تفصيلًا تاريخيًا، بل موقفًا أخلاقيًا ورسالة واضحة: إن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يملك، بل بما هو عليه. واليوم، بعد أكثر من ألفي عام، تبدو هذه الرسالة أكثر إلحاحًا في بلدٍ يشعر فيه كثيرون أن كرامتهم باتت مهدّدة، وأن مستقبلهم معلّق على احتمالات مجهولة.
لبنان يمرّ بواحدة من أدقّ المراحل في تاريخه الحديث: أزمات اقتصادية خانقة، انهيار في الثقة، قلق اجتماعي متصاعد، وهجرة متواصلة تستنزف طاقات الشباب. في خضمّ هذا الواقع القاسي، يصبح الميلاد أكثر من مناسبة دينية؛ يصبح مساحة للتأمل الجماعي، وفرصة لمساءلة الذات، وسؤالًا مفتوحًا عن معنى الوطن والعيش المشترك والمسؤولية.
إن أخطر ما يواجه لبنان اليوم ليس الفقر وحده، ولا الانهيار المالي فحسب، بل تآكل الأمل في نفوس الناس. حين يعتاد الإنسان على الظلم، ويصبح اليأس جزءًا من يومياته، يدخل الوطن في مرحلة الخطر الحقيقي. من هنا، يكتسب الميلاد بُعده المقاوم: مقاومة الانكسار الداخلي، ورفض الاستسلام لفكرة أن ما نعيشه قدرٌ لا يتغيّر.

رسالة الميلاد تقوم على فكرة جوهرية: الإنسان أولًا. وهذه الفكرة، في السياق اللبناني، ليست شعارًا بل ضرورة وطنية. فالدولة التي لا تحمي كرامة مواطنيها، والمؤسسات التي لا تخدم الناس، والسلطة التي تنسى أن دورها الأساسي هو خدمة الصالح العام، تفقد معناها. الميلاد يعيد وضع الإنسان في مركز المعادلة، ويذكّر بأن أيّ مشروع وطني لا ينطلق من كرامة الإنسان محكوم بالفشل.
الاحتفال بالميلاد، في معناه الحقيقي، لا يُقاس بحجم الزينة ولا بعدد الأضواء، بل بقدرتنا على تحويل القيم إلى ممارسة عبر التضامن مع الفقير، إنصاف المظلوم، احترام الاختلاف، وإعلاء قيمة العيش معًا. لبنان، بتنوّعه الثقافي والديني، يحمل في تركيبته رسالة شبيهة برسالة الميلاد: رسالة اللقاء لا الإقصاء، والحوار لا الإلغاء.
في هذا السياق، تبرز مسؤولية القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالميلاد ليس مناسبة للمجاملات، بل لحظة محاسبة أخلاقية. السلطة، في جوهرها، أمانة لا امتياز، وخدمة لا غلبة. وحده المسؤول الذي يشعر بأوجاع الناس، ويتعامل مع السلطة كمسؤولية أخلاقية قبل أن تكون موقعًا سياسيًا، يمكنه أن يكون جزءًا من خلاص هذا الوطن.
لكن المسؤولية لا تقع على القادة وحدهم. فالميلاد يحمّل كل فرد مسؤولية دوره، مهما بدا صغيرًا. التغيير لا يبدأ من فوق فقط، بل من القاعدة: من الوعي، من التربية، من الكلمة الصادقة، ومن الإيمان بأن الوطن يُبنى بالفعل اليومي، لا بالانتظار السلبي. كل فعل خير، كل موقف شجاع، كل رفض للفساد أو الظلم، هو مشاركة فعلية في صناعة الرجاء.
إن الميلاد، في عمقه، وعد لا يسقط بالتقادم. وعد بأن الظلام، مهما طال، ليس الكلمة الأخيرة. ولبنان، رغم الجراح، ما زال يحمل في داخله بذور هذا الوعد: في صبر ناسه، في إصرار شبابه، في كل من يرفض أن يتخلّى عن إنسانيته رغم القسوة.
فلنجعل من هذا الميلاد محطة لولادة جديدة، لا في الخطابات فقط، بل في السلوك والمواقف. ولعلّ المخلّص يولد اليوم في ضمائرنا، فنكون نحن صانعي الرجاء، وشركاء حقيقيين في خلاص وطنٍ يستحق الحياة.
نبض