ميلادٌ مجيد... فيض الله في التاريخ وبدء الخلق الجديد
فادي بوراشد، أستاذ في كلية اللّاهوت والعلوم البيبلية الجامعة الأنطونية
"ليتك تشقّ السماوات وتنزل... فترتعد الجبال من حضرتك". بهذه الكلمات من النبيّ إشعيا تتجسّد إحدى أعمق مشاعر الألم والرجاء التي تستصرخ الله ليتدخّل لصالح من طرحتهم مآسي الحياة أرضًا. فقبضةُ الزمن لا تعرف رحمة، ولا مظالمُه تعرف هدنة. وليس عجبًا أن يكون المفهوم اليوناني للزمن - وهو مفهوم دوريّ في جوهره - عاجزًا عن فتح مجال لانتظار أي جديد يُذكر. ألا يرسم لنا سفر الجامعة من ناحيته، معالم تلك الحلقة المقفلة على ذاتها، والتي تسجن الإنسان في دورانها حين يقول: "باطلُ الأباطيل، كلُّ شيء باطل. وأي فائدة للإنسان من تعبه؟ جيل يمضي وجيلٌ يجيء، والأرضُ قائمة إلى الأبد. الشمسُ تشرق والشمس تغيب... الأنهار تجري إلى البحر، والبحرُ لا يمتلئ، فتعود إلى الموضع الذي جرت منه، لتعود وتجري من جديد. كلُّ شيء مُملٌّ... فما كان هو الذي سيكون، وما من شيء جديد تحتَ الشمس" (الجامعة 1: 2-11).
وهكذا، بين صرخة النبوّة ومرارة الحكمة، مَن بمقدوره أن يبدّل مسار الزمن؟ أو أن يودع في جريانه نواة حياة جديدة تكسر حلقته المغلقة لتنفتح نحو عوالم جديدة؟ الفكر المسيحيّ - البيبلي، وعلى عكس المفهوم اليوناني، وانطلاقًا من عقيدة الخلق، يرى في جريان الأزمنة مسارًا منفتحًا على غاية تتخطّى حدوده المقفلة. فالزمن بدأ بالخلق وسيبلغ غايته في الأبدية. ولا يمكن بالتالي أن يشكّل متاهة أو تكرارًا أبديًا. إنه مسرح تدخلات الله لصالح خلائقه. تدخلات إلهيّة عظيمة أسماها القديس أغسطينوس "قرارات خلّاقة كبرى"، أي خلق العالم والإنسان وتجسّد المسيح وقيامته وفدائه للبشر. ) أوسكار كولمن (1902- 1999 اللّاهوتي اللوثري الفرنسي-الألماني، تكلّم على خط الزمن وفق الوحي الكتابي. فخلافًا لمفهوم الزمن الدوريّ الأبدي عند المفكرين الإغريق، رأى كولمان أن التاريخ يجري بخط مستقيم بدءًا من الخلق وصولًا إلى النهاية، أي إلى اكتمال Achèvement)) نهائي يتمّ وفق مخطّط خلاصيّ رسمه الله للبشر.
ويحتلّ حدث المسيح في سياق هذا المخطّط، بتجسده وموته وقيامته، مركز الأزمنة بامتياز. فما كان قبله، يتوق إليه، وما جاء بعده لن يبلغ غايته وكماله إلّا به وفيه. كما ترتكز رؤيته على بُعد «الحاضر–المستقبل» الذي يشدّد عليه باعتباره بدء الانتصار الحاسم الذي تحقّق بتجسّد المسيح وقيامته، وينتظر اكتماله في المجيء الثاني.
ولا تشكّل مركزية المسيح هذه، نقطة الوسط على خطّ الخلاص وحسب، بل محوره الجوهري، إذ به يسير التاريخ نحو هدف نهائي يعطى له من علُ. الكاردينال 1905-1974) جان دانييلو) وعلى غرار كولمان، ركّز بدوره على مركزيّة المسيح في مسار التاريخ والخلاص. غير أنّه أولى اهتمامًا خاصًا بموقع المسيح كقوة فاعلة في الزمن الراهن، خصوصًا في حياة الكنيسة وأسرارها.
فالمسيح ليس فقط مَن انتصر في الماضي وسينتصر في مجيئه الثاني، بل هو الحاضر الآن من خلال قوة روحه وعمله في الأسرار. فالزمن بالنسبة إليه ليس إطارًا محايدًا تجري داخله أحداث الخلاص، بل عنصرٌ يدخل في بُنية التدبير الإلهي نفسه، وفيه تتجسّد أحداث الخلاص الكبرى وتُفَعَّل في الكنيسة والمؤمنين. ويمكن القول من هذا المنظور، إنّ دانييلو يكمّل البُعدَ الذي شدّد عليه كولمان، عبر إبراز الحضور الفاعل للمسيح في حياة الكنيسة. وعليه، إن مقاربة حدث الميلاد انطلاقًا من فكر كل منهما، تكشف عن مكانة التجسّد الأساسيّة في تاريخ الخلاص. ففي فكر كولمان، يشكّل الميلاد الحدث المؤسِّس الذي يحدّد مسار التاريخ ويقوده نحو الخلاص، بينما يرى فيه دانييلو مساحة لعمل الله، وتاريخًا مفتوحًا على المعنى.
نحن أمام بداية جديدة ومطلقة إذًا، تحصل بفعل تدخل غير متوقّع لحضور الله في التاريخ “Irruption de Dieu dans l’histoire” وفق تعبير بليغ لدانييلو. وهو تدخل أعطى المقياس المعياريّ لتوالي الأزمنة ووجهتها النهائية.
من هنا، وبهذا المنعطف غير المتوقّع لمبادرة الله الخلاصيّة في الميلاد، يتجلّى الرابط القائم بين دخول الله إلى عالمنا، والسبب الكامن وراء دخوله هذا، ألا وهو المحبة، محبة لا يمكن ضبطها على الإطلاق. إذ إن الله لم يكتفِ بوحي من علُ أو بمجرد إعلان عن بُعد، بل من فرط تعلّقه بالبشر، لم يعد "قادرًا" على مقاومة "مكوثه بعيدًا عنهم"، فانحنى عليهم، فكان الميلاد. ويمكن القول ببساطة، إن مخزون الحبّ الذي يكنّه الله لخليقته، دفع بالابن ليخلي ذاته، كي يصبح تجسّده اكتمالًا غير متوقّع لتدخلات الله الخلاصيّة، وعلامةً مطبوعة في التاريخ على محبته لهم.
ولطالما استشعر آباء الكنيسة - أثناسيوس وغريغوريوس النزينزي ومكسيموس المعترف بشكل خاص - صعوبة أن تستبقي المحبة الإلهية نفسها لنفسها، لأن الحبّ كالخير، من شأنه أن يعمّم ذاته. وما التجسّد، من هذا المنظور، إلّا امتدادًا وكشفًا في الزمن، لمحبة الله اللامتناهية للعالم. محبة تُظهر التزام الله الأزلي بقضية الإنسان الزائل. وهذا بُعدٌ يضيء على فرادة الإيمان المسيحيّ.
ويُفهم جيدًا في هذا الإطار لمَ تعثّر كثيرون في قبول سرّ التجسّد وفهمه. فمنذ فجر المسيحيّة، كان هناك دائمًا من يحاول سلخ يسوع عن حقيقة الوهيته، ليجعل منه مجرد إنسان تبنّاه الله، أو نبيًّا، أو مصلحًا اجتماعيًا وحسب؛ ولقد كلّفت عقيدةُ "الإله الحق والإنسان الحق" الكنيسةَ جهودًا جبّارة ومجامع كبرى لتعلنها وتحافظ عليها. غير أن نتيجة عقيدة "الكلمة صار جسدًا، وحلّ بيننا"، عمّدت التاريخ وجعلته زمنًا مقدّسًا، أي منفتحًا على الله، يصعبُ بعده لمفهوم الزمن الدوريّ (cyclique) أن يصمد. فالتاريخ أضحى مُتمَحورًا على المسيح كون هذا الأخير قاعدة خلاصه، ومقياس عدّه. ولا مبالغة في القول: "إن معنى الوجود ووجهة التاريخ، دخلا حيّز التواجد بيننا، وظَهرا بوجه إنسان". وخلاصة الأمر، بشخص اللابن المتأنّس، اجتاح الله العالم، وغرس نواة تاريخ مقدّس، يُفسَح فيه المجال لكل من يؤمن به، أن يرى نقطة ارتكازه البشريّ، ووجهة مساره في شخص المسيح. كتب بولس الرسول: "هو الذي في صورة الله لم يعُدَّ مساواته لله غنيمة، بل أخلى ذاته متخذًا صورة العبد، وصار على مثال البشر..." (فيليبي 2:6-7). إنها أعجوبة الأعاجيب كما قالها بحقّ توما الأكويني.
لقد قَبِل ابنُ الله بتجسّده بالمحدوديّة واللامجد. وبات بالتالي السجود ولأول مرة في التاريخ ممكنًا أمام "إنسان" من طينتنا، بدون خطر السقوط في الصنميّة كما قال الكاتب الفرنسيّ (Jean Guitton). بالميلاد صار الله معنا، وأصبح بالإمكان التوجه إليه كواحد منّا؛ به صار الوجود فسحة للنعمة، وجوًّا خلاصيًّا محيطًا بنا: "من قدامي ومن ورائي تحيط بي ويدك عليَّ" (مزمور 139 :5(؛ به أمسك الله بزمام الزمن، وأضحت أيامنا بين يديه، فلا ملل ولا ركود بعد اليوم، لأن الخلق صار جديدًا. فلا يمكن بعدُ قراءة مصيرنا بعيون ترابية، أو قياس أيّامنا برُزنامة رقميّة. غير أنّ هذا التحوّل الجذري في معنى الزمن لا ينعكس دائمًا في ممارساتنا واحتفالاتنا، إذ كثيرًا ما نُفرغ الميلاد من بعده الخلاصي فيتحوّل إلى مجرد طقس استهلاكي فارغ، نحتفل به بفطير عجين وثنيّ قديم، حيث نبحث عن "الرغوة في الرغوة"، على حدّ تعبير جميل لميخائيل نعيمة. إن كان الميلاد هو خميرة الخلق الجديد، فلنحتقل به إذًا، ولنكن فيه عجينًا جديدًا ملؤه حقٌّ وقداسة.
نبض