شايف الأرزة شو كبيرة؟

منبر 23-12-2025 | 12:46

شايف الأرزة شو كبيرة؟

صوتٌ هادئ رنان ملهم عاشق يأتي من سفارة نصبتها بين فضاءات النجوم، معجزة تتكرر ملامستها ويقينها.
شايف الأرزة شو كبيرة؟
فيروز.
Smaller Bigger
د. شاهر النهاري

 

منذ أن كتبت اسم حبيبها على شجر الحور، وتبتلت عمراً طويلاً في معابد الحب، وحتى يومنا هذا، لم تكن فيروز مجرد صوت جميل، بل كانت أرزة باسقة عظيمة مثمرة بالحب، تفوق أغصانها كل خضار غابات الأرض. 

صوتٌ هادئ رنان ملهم عاشق يأتي من سفارة نصبتها بين فضاءات النجوم، معجزة تتكرر ملامستها ويقينها، رنين يدور في طريق النحل الطويل المدى، إحساسٌ مرهف لا يُضاهى، وأداءٌ خفيف يزن القناطير، ويرتقي إلى ما فوق الارتقاء. لم يكن الغناء لديها مهارة أو استعراضاً، أو حرفة ترتقي بالتدريب، بل حالة وجود مشاعرية طاغية متأصلة. 

فهي حين تغني لا تجاري جدول اللحن مماهاة، بل تبدع باكتشاف جوهره وحدوده ونفائسه وكماله الكامن، فكأن الألحان والنوتات والآلات الموسيقية تنتظرها لتعيد كتابة وإبراز وإكمال روعة حضورها.

كانت تنهل من مدرسة الرحابنة، بعاصي ومنصور، من اكتشفا بجرافاتها حدود طريق ممهّدة لقمم ثلج الجمال، فكانت مشروعًا فنيًا نادرًا، صاغ لبنان كما كان يحلم أن يكون: رقةً، وداعةً، بوحاً يتخطى الحدود، وطنًا، رقياً، وفكرةً رومانسية مقاومة للقبح. 

في «عالطاحونة»، و«مرسال المراسيل»، و«نسّم علينا الهوى»، و «حنا السكران» كان الحنين سياسةً جمالية سوريالية، وكانت الذاكرة فناً يُخَلد. 

ثم جاء زياد الرحباني، فلذة كبدها، المجنون فناً، ليكسر القوالب والأطر دون أن يهدم روعة الجوهر، فلم يكن امتدادًا، بل غوصاً وانكشافًا، يخرج من كنوزها أيقونات مشاغبة، «سألوني الناس»، «هدير البوسطة»، و«كيفك إنت؟»، و«بلا ولا شي»، و«أنا عندي حنين»، فتتحول فيروز من رمزٍ ملائكي إلى إنسانة تشعر أكثر بما يجري حولها، امرأة تعرف الخسارة، السخرية، التعب، والوعي الإنساني بالعالم.

وقد كانت ظاهرتها طوال عقود حكاية وطنية عميقة أصيلة مخلصة لا تتكرّر إلا برموز الأنفس الزكية. 

والغريب أن مردود وطنها عليها كان ضئيلًا، نكران جميل، ومنادمة جراح. 
غنّت للبنان وهو ينتفض، يتشقق طائفيًا وفكريًا، ويخوض الحروب القاتلة لكياناته، حضنت شماله وجنوبه وسهله وجبله، تغنت بأعياده، وأنارت أدراج بعلبك، بورقه الأصفر، ولم تنو هجرانه! 

حتى حين ضاقت أحضانه برحيل زوجها، وبعد أن لامها أقرب أهلها، بقيت ترد: «بحبك يا لبنان» ليس شعاراً، بل عهداً.

وفيروز اليوم لم تعد مالكةً لكامل أعمالها، حين تشابك الشركاء، وتعاركوا، ومنعوها حتى من استثمار ما جادت به من حبّ على هذا الوطن، من الموسيقى والمسرح والرقي! 

لقد وجدت نفسها أرزة مزروعة على مسرح بعلبك تترنم كما لو كانت تقف على مذبح الجمال، وبعدها أضاءت أعظم مسارح العالم حاملة اسم لبنان تمجّده كلّما خفت اسمه. 

كُرّمت في الخارج كما يُكرّم كبار مبدعي الكوكب، بينما في الداخل تُركت وحيدة، ببعض الأوسمة القديمة، وصمتٍ رسميٍّ فادح، وهي تتخطى عتبات التسعين، وتوّدع فنها، وفي واحدة من أصعب حالاتها النفسية والعائلية، بعد فقد زياد.

إنها حكاية أرزة عظيمة وجميلة وحزينة. 
حكاية كنز فنيّ يسبق العقبات أخلاقيًا، في بلد لا يعرف كيف يحتفظ بكنوزه!
وتظلّ فيروز، بصباحاتها، وهجعة أمسياتها، وحرقة ألحانها وبديعها تدوي في أرجاء عواصم العالم، وتظلّ «أعطني الناي وغنّي» همسة جبران تتردّد في الوجود بحثاً عن الخلود. 
نداءٌ من خارج لبنان إلى من هم في داخله: أعيدوا لهذه الإنسانة قيمتها، ولقلبها وهج النار، لا بالألقاب، ولا بالصور، بل بالاعتراف، والاحتضان، والإنصات، والإنصاف. 
ففيروز لم تكن يومًا لبنانية فقط، بل كانت لبنان بكل جمالياته وشوارده وكما كان يجب أن يكون.

 

فيروز.
فيروز.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/22/2025 6:32:00 PM
بيّنت الداخلية السورية أن هذه العملية تعكس مستوى التعاون الإقليمي المتين والجهود المتواصلة لمكافحة الشبكات الإجرامية المنظمة.
العالم العربي 12/23/2025 10:17:00 PM
أحد أبرز القادة العسكريين الذين قادوا مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وعززوا علاقاتها الإقليمية والدولية.
المشرق-العربي 12/22/2025 4:35:00 PM
انعكس الانقسام حيال حصر السلاح بيد الدولة العراقية في مواقف قادة فصائل بارزين، بينهم قيس الخزعلي (أمين عام عصائب أهل الحق) وشبل الزيدي (أمين عام كتائب الإمام علي)، اللذان أبديا موقفاً مبدئياً مؤيداً للطرح، في مقابل رفض صريح من "كتائب حزب الله" وحركة "النجباء".
المشرق-العربي 12/22/2025 1:39:00 PM
ضبط صواريخ "سام-7" في مداهمة أمنية بدير الزور