مارفن عجور


ونحنُ في طريقِنا لتوديعِ عام 2025، واستقبال عام جديد، نُعيد ترتيبَ حساباتنا، ونسترجع كُلّ لحظة ربح وخسارة، قوّة وضعف، أمل وخيبة، استسلام وانتصار. تسترجعُ الذاكرةُ نفسَها، ذاكرةٌ جمعت أرشيفًا مِنَ الأيّام بحلوها ومرّها، أرشيفًا لا ينطفئ، تمامًا كأيّ تاريخٍ مهما أطفأته إرادة النسيان يبقى حاضرًا. حاضر لأنَّهُ وطنٌ، فهو من يصنعُ الوطن، وطن الإنسان والناس! 

تاريخٌ محفوفٌ بالنكسات، والنكبات. تاريخٌ التمسَ مشاعرنا، فحرّكها كأمواجٍ هبّت، وكرياحٍ عصفت، بلا استئذان، ولا تنبيه.

قد تقولُ للنسيان كُنْ، فلن يكونَ. وأنتَ تظنُّ نفسَكَ قد نسيت، لكنّ الحقيقة أن التاريخ يفرض نفسه على قلبِكَ فيدقّ بسرعة، وعلى عقلِكَ فيتألّمُ بشدّة من إبرة الماضي الوخيمة، وعلى يديك فيرتجفان، وعلى قدميك فيتوقّفان عن المشي.

فكّر معي دقيقةً: إنْ انتهى الأمس، وصار الماضي في الماضي، وعشتَ في الحاضر، فهل ستختفي الأماكن التي كتبتَ فيها تاريخ البارحة؟ هل ستُقفِل الحديقة التي فيها قطفتَ ورود الماضي؟ أليسَ كلّما مررت من هناك تستذكرُ اللّحظات التي عشتَها مع ناسِكَ؟ أليسَ مِنَ الممكن أن تلتقي الناسَ في الأماكنِ التي حفرتَ فيها اسمكَ معها، وعاهدتم بعضكم بعضًا أن تفوا للعلاقة التي جمعتكم؟ 

إنَّ التاريخَ يا عزيزي أوراقٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، تكتبُها اللّهفةُ بأقلامٍ لا يُمحى حبرُها. التاريخُ نتاجُ لهفةٍ: اللّهفة على الحبّ، اللّهفة على العدالة، اللّهفة على الحياة. واللّهفة نتاجُ الغريزة. الغريزة التي تُرعشُنا، وغالبًا تُصدرُ روائحَ كريهةً تتنشقّها الروحُ لاحقًا. روائح ندم، ووجع، ودماء ينزفُها العقل عندما يحضر الماضي على طاولته. غريزةٌ نتمنّى لو لم تكنْ، لكنّها الحياة، ولكي نعيشَها علينا أن نختبرَها. نصرخُ مناشدين بالعدالةِ، وننسى أنَّ بعدَ كلّ صرخةٍ جهازُنا العصبيّ يُعاقبُنا مستقبلًا، نُحبّ ونتعلّق وندخلُ في نوبةِ التّفكير المفرط، ولا نُدرِكُ عواقبَ المعدة التي ستُكبّل نشاطنا، وتسجنه في زنزانةٍ خانقة!


لا يُمكنُ أن تذوبَ شمعةُ الماضي. لا يُمكنُ أنْ يموتَ ما عاشَ فينا وأحياه شخصَنا. الماضي روحٌ. هو أعمالٌ، هو ثورةٌ تمتدّ مدى الحياة. ثورةُ الحياةِ على الحياة، وبينهما إنسانٌ هو ابنُ الحياةِ. 

إنَّهُ الماضي. شرطيٌّ ساجنٌ لغريزتنا. بعدَهُ نُصبحُ أنضج، أقوى، أذكى، لكنّ الغريزة وإنْ سُجِنَتْ تبقى ثائرة لا محالة.


وتظنُ أنّكَ شُفيت، ويقضي عليكَ شبحَ الوجود: وجودُ الأشخاصِ في الحقيقةِ، وجودُ الأماكنِ في الحقيقةِ. تبتكرُ سيناريوات في انعدام وجودهم، وتُنشئ في مخيّلتك عالمًا افتراضيًّا تسقي فيهِ زهورُكَ، وتقتلُ فيه أعداءَكَ أناسًا وطرقاتٍ وأحياءَ، بحارًا وجبالًا، بلادًا. تُحيي فيهِ الأرضيات وتقتلُ فيه الأرضيات. وتبقى مناضلًا في سبيلِ الأرضيّات مهما قلّوا. ولكنّ السّماويات تعودُ كُلّ مرّة، لتقولَ لكَ التفت إليّ قليلًا، فتصفعْكَ مرّةً أخرى، تُدخلُكَ في أزمةٍ مع جديدِكَ، وتُعيدُكَ إلى الحربِ مع قديمِكَ. تسيرُ قدماكَ إلى المجهول فتُخدَع، وتسيرُ غريزتك إلى ما كشفَ وجهَهُ الخدّاع ذات يوم فيموت ربيعُكَ وتنقطعُ شجرةُ ثمارك، ويُنشدُ خريفُكَ حُزنَكَ.

وتبقى ساذجًا تدعو الله أن يُنسيكَ عقدَكَ النّفسية الخالدة. لكنّك تُلهى. تُلهى بابتسامةٍ رسمَها أحدهم بكلمةٍ أو هديّةٍ، تُلهى بقصّة جديدة ستصنعُ ذكرياتٍ وستُصبحُ ذكرى غدًا أو في الحياةِ الأبديّة. تُلهيكَ الحياةُ بالحياةِ، فما الحياة سوى مراحل، ومحطّات، وطوابير انتظار: انتظار الأفضل، والأجمل، انتظار النّعم.

أنتَ لا تنسى. أنت تلهو. فكُلُّ شيء قابل للعودةِ من جديد؛ العودة لدقائق لا لسنين. ولكنّ الدقائقَ  كالسنين.
وتقولُ ليتَها لم تكن! لكنّها كانت.
كانت لأنَّكَ كُنتَ هنا، ابنًا للحياةِ، وقدْ مُنحتَ هبةَ الحياةِ لتعيشها كما خطّطها الله لك!
كانت لأنَّها مفهومٌ للحياة، ولا تظننّ أنَّ الحياة قدْ قُدّمت لك على طبقٍ من فضّة، فهي تطلبُ منكَ صبرًا لا ينفد، وعزمًا لا يلين! تطلبُ منكَ أن تقاومَ، تقاومَ، تقاومَ!


أنتَ اليوم لم تنسَ، أنتَ اليوم أقسى!
أنتَ اليوم لم تكتمل، أنتَ اليوم أكثر تحملاً!
أنتَ اليوم لم تنتهِ من المشّقات، أنتَ اليوم تعرفُ كيفَ تقفز فوقَ المطبّات!
أنتَ اليوم لستَ بأنت، فجميعُنا قد نُضطرُ إلى الزيف. أنتَ اليوم اعتدتَ متى تكون أنت، وأين تكون أنت، وإلى أي مدى يجب أن تكون أنت!
أنتَ قضية، أنتَ ملفّ، وأنتَ من يدرسُ ويُحلّلُ هذا الملّف!

أنتَ اليوم تستقبلُ عامًا جديدًا، ومعك على الأرض مليارات من الناس يستقبلونه معك، فافرح معهم، وتهيّأ  لخوضِ هذه الفرصة الاستثنائية؛ وقد أقول عنها استثنائية لأنَّ كُلّ شمسٍ هي نعمةٌ، وأعجوبةٌ حدثت، وإن لم تكن تشعر، فكم هو محظوظٌ ذلك الذي صحا وغسل وجهه وأدركَ أنَّهُ يُمكنُهُ دائمًا أن يبدأ من جديد، وأنَّ سماءهُ ستعودُ زرقاء مهما اسودَّت واصفرّت، وضعفت!