من حيّ الأمين الدمشقي إلى أحياء لبنان اليوم
أكرم بزي
لم تكن زيارة الرئيس السوري أديب الشيشكلي للمرجع الديني السيد محسن الأمين حدثاً عادياً يمكن أن تبتلعه الذاكرة أو تسرده كتب التاريخ كخبر من أخبار السياسة العتيقة. كانت تلك اللحظة أكثر شبهاً بلوحة إنسانية مكثّفة تجمع بين رجل السلطة ورجل الفكر. يومها، كان حيّ الأمين في دمشق أشبه بصفحة من الماضي، تضيق بأزقته وتعلو بأبوابه الخشبية ومآذنه، لكنّه كان يحتوي إرثاً فكرياً وروحياً عميقاً. عندما دخل الشيشكلي ذلك الحي، بدا واضحاً أنه يغادر عالم النفوذ إلى عالم القيم، وأنه يقف على عتبة رجل لا يمتلك قوة السلاح، بل يمتلك سلطة الكلمة والمبدأ.

جلس الرئيس أمام المرجع، وسأل بنبرة ثقة: "اطلب ما شئت". كانت الكلمات تحمل دلالة على قدرة الدولة وسلطتها، وتكشف عن استعداد لتقديم امتيازات أو مكاسب لمن يقف أمامه. لكن السيد الأمين لم ينظر إلى ذاته ولا إلى مصالح طائفته الضيقة، بل نظر إلى الوطن. لم يطلب منصباً ولا نفوذاً ولا مكسباً مادياً ولا إدارياً. رفع رأسه وقال: "لا أريد شيئاً لنفسي. أريد منكم أن تلغوا القيد الطائفي عن الهوية السورية." كانت الجملة صريحة، متجاوزة حدود المصلحة الخاصة إلى رحابة الانتماء بين قيم المواطنة ومنطق الطائفية، بين الدولة الوطنية. في تلك اللحظة، شعر الرئيس بأنّه يقف أمام رجل يفكر في الدولة أكثر مما يفكر أهل الدولة أنفسهم فيها.
هذا المشهد يختصر معادلة الحداثة وإرث الانقسام. والسؤال اليوم: إذا كان رجل دين في منتصف القرن الماضي يطالب بتحرير الهوية من الطائفية، فكيف يمكن قراءة تلك الدعوة في زمن باتت فيه الطائفية أكثر تعقيداً وتشابكاً مع المصالح السياسية والاجتماعية؟ إن تلك النداءات التي بدت في حينها مثالية أو بعيدة المنال، تظهر اليوم كأنها كانت مبكرة في إدراكها لخطورة استمرار الهوية كقيد لا كفضاء جامع.
فالتطور الذي شهده المجتمع، من توسع الدولة الحديثة إلى صعود حركة التعليم والتمدّن، لم يكن كافياً لتفكيك البُنى الطائفية الراسخة، لأن الهوية ظلّت تُدار بوصفها ملكية جماعية لا خياراً فردياً. وهكذا، يظهر السؤال مجدداً: هل يمكن الحداثة أن تتجاوز الطائفية نت دون مشروع وطني جامع، أم أننا ما زلنا ندور في دائرة إعادة إنتاج الانقسام بأشكال جديدة رغم كل التحولات؟
إن الأزمة اللبنانية الحالية ليست أزمة مؤسسات فحسب، ولا أزمة مالية فقط، بل أزمة نظام سياسي قائم على الطائفية، حيث تُقسّم الدولة حصصاً، ويُختصر المواطن بطائفة، وتُحدد الحقوق بموازين المحاصصة. اتفاق الطائف أعلن أن هدف الدولة هو إلغاء الطائفية السياسية، لكنه ظل حبراً على ورق لأن القوى السياسية لم تتخلَّ عن امتيازاتها. وما دامت الهوية تحمل القيد الطائفي، فإن أي إصلاح يبقى شكلياً، لأن الهوية نفسها تؤسس للتمييز والانقسام منذ اللحظة الأولى.
وعلى خلاف الرواية الشائعة، فإن الطائفة الشيعية في لبنان لم تكن حارسة لهذا النظام كما يصوَّر. بل إن أبرز رموزها التاريخيين كانوا من أوائل دعاة الدولة المدنية. السيد عبد الحسين شرف الدين، بمراسلاته ومواقفه حيال سلطة الانتداب، أكد أن العدالة والمواطنة هما أساس الدولة، لا امتياز الطائفة. وعندما ظهر السيد موسى الصدر، حمل خطاباً يربط الحرمان بالدولة، لا بالطائفة، معتبراً أن المشكلة أن الدولة غائبة عن المواطن، لا أن طائفة مغبونة أمام أخرى. وفي خطاباته إنصاف واضح للمساواة ورفض للانقسام.
ثم جاء الشيخ محمد مهدي شمس الدين ليقدّم رؤية أكثر تنظيماً وعقلانية حول إلغاء الطائفية السياسية، داعياً إلى اعتبار الطائفة جماعة أهلية لا سلطة سياسية. وبدا في أطروحاته أن الهوية الدينية يجب أن تبقى إطاراً قيمياً، لا أداة حكم. أما المرجع السيد محمد حسين فضل الله، فانتقد الطائفية من زاوية أخلاقية وإنسانية، معتبراً أنها خطر على الإنسان، والدولة، والعدالة.
وفي المرحلة المعاصرة، تبنّى السيد حسن نصرالله رؤية واقعية ترى أن بناء الدولة المدنية ممكن، شرط ألا يتم ذلك بطريقة فجائية تُحدث خللاً بالتوازن الوطني وتدفع بالبلاد نحو الفوضى. وهو موقف يعكس إدراكاً أن الدولة المدنية ليست شعاراً فقط، بل مسار يحتاج إلى شروط وإجراءات تضمن الاستقرار، وأن التخلص من الطائفية يحتاج دولة قوية لا دولة مفككة.
هذه السلسلة من المواقف تكشف أن مسار العقل الشيعي اللبناني كان، في جوهره، مساراً إصلاحياً مدنياً. لكنه لم يقف عند حدود المؤسسة الدينية. فقد برزت داخل البيئة الشيعية أصوات فكرية مدنية واضحة تركت بصمتها بعمق. هاني فحص، مثلاً، قدّم خطاباً نقدياً للطائفية داعياً إلى دولة المواطنة التي تحمي الدين من تسييسه وتمنح المواطن حقوقه. وأحمد بيضون تناول الطائفية كبنية تاريخية وسياسية قابلة للتفكيك، مؤكداً أنه يمكن إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس غير طائفية. أما علي حرب، فقدّم تحليلاً فلسفياً جريئاً للهوية الطائفية، معتبراً أنها بناء قابل للتغيير وليست قدراً. فيما ناقش محمد علي مكي أثر الطائفية على التنمية وبناء المؤسسات، مؤكداً أنها تحوّل الدولة إلى غنيمة لا إطاراً للعدالة.
إن هذه الأصوات، علماء وفلاسفة ومفكرون، تثبت أن المطالبة بالدولة المدنية ليست مشروعاً مستورداً من الخارج ولا ضغطاً غربياً كما يروّج البعض، بل هي صناعة لبنانية شيعية بامتياز. جذورها تمتد من حي الأمين في دمشق إلى ساحة النجف، ومن صور والنبطية إلى بيروت، ومن خطاب الصدر إلى فكر فحص وبيضون.
اليوم، يواجه لبنان أخطر انهيار في تاريخه. الاقتصاد يتداعى، الليرة تنهار، المؤسسات تتفكك، الثقة الدولية غائبة، والانقسام الداخلي يتعمّق. وفي ظل كل ذلك، نكتشف أن الطائفية لم تحمِ لبنان من الانهيار، ولم تمنح استقراراً، بل كانت وقوداً لاستدامة الفساد والمحاصصة والفشل. وبات واضحاً أن استمرار النظام الطائفي ليس ضماناً للطوائف، بل تهديد لمستقبلها. فعندما تسقط الدولة، تتعرّى الطوائف أمام الفوضى والانهيار.
إن إلغاء القيد الطائفي ليس إجراءً إدارياً هامشياً، بل خطوة سياسية كبرى. إنه إعلان جديد للمواطنة. إن تحرير الهوية من الطائفة يعيد تعريف اللبناني ليس بصفته سنياً أو شيعياً أو مارونياً، بل بصفته مواطناً يحمل حقوقاً متساوية. وبقدر ما يحرر الدولة من المحاصصة، فإنه يحرر الطوائف من زعاماتها، ويعيد للهوية معناها الوطني. وهو خطوة لا تحتاج تعديلات دستورية معقدة، بل قرار سياسي شجاع. قرار لو اتخذ سيجعل من اتفاق الطائف نصاً قابلاً للحياة، لا نصاً ميتاً يلوّك الخطابات.
إذا كان لبنان يريد إصلاحاً حقيقياً، فإن البداية ليست باختيار رئيس جديد، ولا تشكيل حكومة جديدة، ولا تعديل وزارات وحقائب، بل بإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمواطن. والمفتاح الأول لذلك هو الهوية. بطاقة لا تحمل طائفة، بل تحمل إنساناً. هذه الخطوة، وحدها، يمكن أن تفتح باب الإصلاح: التعليم الموحد، القضاء المستقل، الاقتصاد العادل، الجيش الوطني فوق الطوائف.
لقد حان الوقت كي يدرك اللبنانيون أن الطائفة لا تستطيع حماية نفسها من الانهيار، وأن الطائفية لا تصنع دولة، وأن المستقبل لا يبنى على التوازنات، بل على المساواة. وكما قال السيد محسن الأمين: قيمة الإنسان ليست بما يطلبه لنفسه، بل بما يطلبه لوطنه.
ليس المطلوب إلغاء الطوائف، بل إلغاء تحويل الطائفة إلى دولة داخل الدولة. وليس المطلوب محو العقائد، بل تحريرها من السياسة. وليس المطلوب الانقلاب على النظام، بل امتلاك شجاعة إصلاحه.
إن لبنان الذي وصل إلى الحضيض لا يحتاج إلى مسكنات، بل يحتاج إلى جراحة وطنية. وأول مشرط في هذه العملية هو إلغاء القيد الطائفي عن الهوية. حينها فقط، يمكن أن يولد وطن، لا محميّات. يمكن أن يولد مواطن، لا تابعاً. يمكن أن نحيا لبناناً لا يشبه حيّ الأمين بالذكريات فقط، بل يشبهه بالقيم التي حملها ذلك المشهد: أن الطائفة ليست قدراً، وأن الوطن أكبر.
نبض