الانفتاح كخيار إنقاذي في زمن الانهيار!
د. عصام ي. عطالله - استاذ جامعي، كاتب وباحث
لم يعد الحديث عن الانفتاح أو الانغلاق في لبنان مسألة فكرية أو ثقافية منفصلة عن الواقع، بل بات سؤالًا سياسيًا بامتياز، يتقاطع مع مصير الدولة وقدرتها على البقاء. ففي ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي العميق، والتعطيل المزمن للمؤسسات، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام مفترق طرق واضح: إمّا الانفتاح الواعي على العالم، وإمّا الغرق أكثر في دوّامة الانقسام والتعصّب والانغلاق.
تاريخيًا، قامت المجتمعات على التفاعل والتواصل وتبادل الخبرات. والانفتاح لم يكن يومًا تهديدًا للهوية، بل شرطًا لتطوّرها وحمايتها. فقبول الآخر، مهما اختلف في الرأي أو الانتماء أو المعتقد، يشكّل الأساس لأي عقد اجتماعي متين. غير أنّ لبنان، الذي طالما قدّم نفسه مساحة للتنوّع والحوار، يشهد اليوم تراجعًا مقلقًا لهذا الدور، لصالح خطاب سياسي يقوم على التخويف والتحريض، ويستثمر في الانقسامات بدل معالجتها.

يُستخدم مفهوم الانفتاح في الخطاب السياسي المحلي غالبًا كعنوان ملتبس. ففي حين يُقدَّم أحيانًا على أنه خطر على السيادة أو مساس بالخصوصية الوطنية، تُستَخدم هذه الحجج في الواقع لتبرير العزلة، وتأجيل الإصلاح، وتكريس منظومة سياسية أثبتت عجزها عن إدارة الدولة. فالانفتاح لا يعني الذوبان في الآخر أو التخلّي عن الثوابت، بل يعني القدرة على التفاعل مع العالم من موقع الندية والمصلحة الوطنية، لا من موقع الخوف أو الانكفاء.
في عالم تحكمه العولمة والتشابكات الاقتصادية والتكنولوجية، لم يعد الانفتاح خيارًا انتقائيًا. الدول التي أحسنت إدارة انفتاحها استطاعت أن تحمي مصالحها وتطوّر اقتصادها، فيما دفعت الدول المنغلقة أثمانًا باهظة من استقرارها ونموّها. أما في الحالة اللبنانية، فقد ساد منطق الشك الدائم بكل ما هو خارجي، لا دفاعًا عن السيادة بقدر ما هو هروب من مواجهة الفشل الداخلي، ورفض لأي مقارنة تكشف حجم الإخفاق.
التعصّب والانغلاق لا يُمارسان فقط عبر السياسات، بل أيضًا عبر العقول. فخلال السنوات الأخيرة، جرى إنتاج "حقائق" سياسية وإعلامية مشوّهة، تحوّلت مع الوقت إلى مسلّمات لدى شرائح واسعة من المجتمع. هذه السرديات، القائمة على الخوف والتخوين، كبّلت النقاش العام، ووجّهت غضب الناس بعيدًا عن أسبابه الفعلية، وأسهمت في إضعاف أي محاولة جديّة للتغيير.
لا يمكن لدولة أن تقوم من دون انفتاح حقيقي. فالدولة ليست مجرد سلطة سياسية، بل منظومة قيم، ومؤسسات، وضمانات لكرامة الإنسان. ومن دون تبادل المعرفة، والاستفادة من التجارب الدولية، والانخراط في مسارات التطوّر العلمي والتكنولوجي، يبقى أي حديث عن النهوض مجرّد شعارات. بناء الدول لا يتم عبر الخطاب السيادي وحده، بل عبر التخطيط، والإصلاح، والانفتاح المدروس.
اقتصاديًا، يشكّل الانفتاح شرطًا أساسيًا لاستعادة الثقة. فاقتصاد معزول، تحكمه الاحتكارات، وتغيب عنه الشفافية، لا يمكنه أن يؤمّن الاستقرار أو العدالة الاجتماعية. وما يعيشه اللبنانيون اليوم من تدهور معيشي وانهيار في الخدمات العامة هو نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية فاشلة، قامت على الإغلاق، وتعطيل الشراكات، وربط الاقتصاد بمصالح ضيقة بدل دمجه في محيطه العربي والدولي.
لكن الانفتاح لا يكون منتجًا إلا إذا انطلق من الداخل. فلا انفتاح حقيقي في ظل ديمقراطية مشوّهة، أو مؤسسات معطّلة، أو دولة تُدار بعقلية الغلبة. فالانفتاح السياسي يتطلّب نظامًا ديمقراطيًا فعليًا، يحترم المحاسبة، ويعيد الاعتبار إلى دور المواطن، ويكسر منطق الحصانات غير المعلنة.
لبنان اليوم جزء من منطقة تشهد تحوّلات كبرى وصراعات على النفوذ والموارد. وبينما تسعى دول عديدة إلى إعادة تموضعها في النظام العالمي الجديد، لا يزال لبنان أسير انقساماته الداخلية، عاجزًا عن صياغة رؤية واضحة لانفتاح متوازن يخدم مصلحته الوطنية. والانفتاح هنا لا يعني الارتهان، بل بناء علاقات عقلانية، وتعاون مدروس، واستفادة من الفرص المتاحة.
في المحصلة، يقف لبنان أمام خيار واضح لا يحتمل المواربة: إمّا انفتاح واعٍ يقود إلى إعادة بناء الدولة واستعادة الثقة، وإمّا تعصّب وانغلاق يسرّعان الانهيار. والقرار، مهما تأخّر، لا بد أن يُتَّخذ.
نبض