التفاوض مع إسرائيل ليس استسلاماً… بل كسرٌ لأوهام الشعارات
بسّام صرّاف
في الشرق الأوسط، أكثر ما يُرعب ليس العدو بحدّ ذاته، بل الكسل الفكري الذي يحوّل السياسة إلى طقسٍ صاخب بلا نتائج، ويستبدل التفكير بالانفعال، والاستراتيجية بالشعار، والمصلحة الوطنية بالمزايدة. ذاك الكسل الذي يجعل من الصراخ بديلاً عن القرار، ومن الرفض الأعمى فضيلة، ومن الجمود بطولة.
فلنقلها بوضوح، ومن دون مواربة أو تجميل لغوي:
التفاوض مع إسرائيل ليس استسلامًا، متى كان ضمن شروط واضحة، ومصلحة وطنية محددة، وقرار سيادي مستقل.
الاستسلام الحقيقي هو أن ترفض التفاوض وأنت عاجز، وأن ترفع القبضة وأنت منهك، وأن تُزايد على الناس وأنت تدفعهم ثمنًا من دمهم، وأمنهم، ومستقبل أولادهم.
من يرفض التفاوض باسم "الكرامة"، يفعل ذلك في أغلب الأحيان لأنه لا يملك مشروع دولة، بل يعيش على سردية. لا يملك خطة، فيلوذ بالشعار. لا يملك قرارًا، فيختبئ خلف التخوين. فتصبح "الكرامة" غطاءً للعجز، وتتحوّل "السيادة" إلى كلمة جوفاء تُستعمل لإسكات أيّ نقاش عقلاني.

الاستسلام ليس الجلوس إلى طاولة تفاوض.
الاستسلام هو ترك القرار بيد السلاح وحده، واختزال الدولة ببندقية، والسياسة بجبهة مفتوحة، والكرامة بحالة تعبئة دائمة.
الاستسلام هو رفض كل حل، ثم البكاء على الأطلال، ومطالبة الشعب بالصبر إلى ما لا نهاية، وكأن الشعوب خُلقت لتدفع ثمن فشل نخبها.
التفاوض ليس حبًا، ولا تطبيعًا، ولا تبريرًا للعدوان.
التفاوض أداة من أدوات الصراع، ومن يرفض الأدوات لأنه لا يُجيد استخدامها، لا يملك الحق في مصادرة حق غيره في إنقاذ وطنه. السياسة ليست نشرة عاطفية، بل إدارة مصالح، وموازين قوى، وتوقيت، وحسابات دقيقة.
هل كان التفاوض استسلامًا حين استعادت مصر سيناء؟
أو حين أنهت إيرلندا الشمالية صراعًا دمويًا عبر اتفاق سياسي فرض منطق الدولة على منطق السلاح؟
حتى أكثر النزاعات دموية في التاريخ الحديث لم تنتهِ بالهتاف، بل على طاولات تفاوض، فُرضت حين نضجت موازين القوى، أو حين استُنزف الجميع، أو حين قرّر طرف ما إنقاذ دولته من الانهيار.
السيادة لا تُقاس بعدد الخطب، بل بقدرة الدولة على فرض مصلحتها.
ومن يرفض التفاوض بالمطلق، فإما أنه لا يريد دولة أصلًا، أو لا يريد قرارًا وطنيًا مستقلًا، أو يخشى أن يسقط عنه سلاح التخوين الذي يتغذّى عليه سياسيًا.
نعم، إسرائيل عدو.
لكن العدو لا يُواجَه بالشعارات وحدها، بل بالعقل كما بالقوة، بالحساب كما بالشجاعة، بالسياسة كما بالميدان. ومن لا يعرف متى يتفاوض، لا يعرف متى ينتصر، ولا متى يحمي شعبه، ولا متى يوقف النزيف.
كفى تخويفًا للناس.
كفى تقديسًا للعجز.
كفى تحويل الشعارات إلى سجون فكرية تُشلّ أي نقاش، وتمنع أي أفق، وتُبقي الأوطان رهينة خطابٍ لا ينتج دولة.
التفاوض ليس هزيمة.
الهزيمة الحقيقية هي أن تبقى خارج التاريخ، ترفض كل باب، وتحرق كل فرصة، ثم تتهم العالم كله بأنه تآمر عليك.
السؤال ليس: هل نتفاوض أم لا؟
السؤال الأخطر هو: هل نملك شجاعة القرار؟
أم سنبقى أبطال شعارات في وطنٍ بلا دولة؟
نبض