الإنسان الجديد الذي يتحدّد للمعرفة
الاب ايلي قنبر
1. "فَأَميتوا إِذَن أَعضاؤءكم ٱلَّتي عَلى ٱلأَرض"
ما هي الميزة أو الكلمة التْرِنْد في أيّامنا؟ لقد"حصدت عبارة[ ࢷول مخلوف، Rage-bait كلمة «أوكسفورد» لهذا العام | الخوارزميات في خدمة الفتنة: لبنان يبتلع «طُعم الحنق»، الأخبار، الأربعاء 10 كانون الأوّل 2025.] Rage-bait («طُعم الحنق») المرتبة الأولى بعدما رأى الخبراء اللغويون أنها الكلمة الأدلّ على روح المرحلة". إنّها كلمة العام بحسب معجم «أوكسفورد» كونها الكلمة الأكثر رواجًا في «لغة» الإنترنت[ من "بين الكلمات المرشحة الأخرى مثل bio hack («قرصنة حيوية»، أي الاعتماد على العلم والتكنولوجيا لتحسين الصحّة النفسية والجسدية) التي حلّت في المرتبة الثانية و aura farming («الاستثمار في الهيبة»؛ «صورة» الشخص الافتراضية) فالمرتبة الثالثة".]. لكن الأمر ليس جديدًا، عرف الناس الغضب وتداعياته منذ القديم. لذا كانت الدعوة أن "ٱطرَحوا ٱلكُلّ: ٱلغَضَبَ وَٱلسُّخطَ وَٱلخُبثَ، وَٱلتَّجديفَ وَٱلكَلامَ ٱلقَبيحَ مِن أَفواهِكُم، وَلا يكذِّب بَعضُكُم بَعضًا. إِخلَعوا ٱلإِنسانَ ٱلعَتيقَ مَعَ أَعمالِهِ: ٱلزِّنى وَٱلنَّجاسَةَ وَٱلهَوى وَٱلشَّهوَةَ ٱلرَّديِئَةَ، وَٱلطَّمَعَ ٱلَّذي هُوَ عِبادَةُ وَثَن". إذًا "اختار معجم أوكسفورد «طُعم الحنق» كلمةَ العام بوصفها مرآةً لزمن يتغذّى على الغضب. محتوى يُصمَّم عمداً للاستفزاز، تدفعه الخوارزميات، ويُستثمر سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا. من «طُعم النقرة» إلى «طُعم الحنق»[ "ورد مصطلح «طعم الحنق» للمرة الأولى على الإنترنت عام 2002 في منشور على Usenet للإشارة إلى ردود الفعل العنيفة عند بعض سائقي السيارات عندما يومض أحدهم لآخر بأضواء سيارته طالباً تجاوزه. سرعان ما خرج هذا المصطلح من قمقمه وتطوّر دلالياً ليستقر على معناه الراهن".]، تحوّل التفاعل إلى وقود للانفعال، وصار الغضب سلعةً رابحة، يمتد من منصات الترفيه إلى صلب الخطاب السياسي، ويُعيد تشكيل وعينا الصدام. وفي لبنان، تحوّل إلى أداة اشتباك يومي يغذّي الاستقطاب ويُضاعف التوتر، من الشاشات إلى منصّات التواصل".

وقد "اتضح أنّ تحفيز الغضب يزيد الرغبة في البحث عن المعلومات، ما يفضي إلى زيادة في النقر على المواقع، فالتفاعل مع المحتوى والاشتباك الضاري مع «الآخر»، وهكذا كان «طُعم الحنق» مسبوقاً بزراعة الغضب نفسه". يشرح بيونغ تشول هان[ راجع: مؤلَّفه بعنوان: «آفاق رقمية: مجتمع السراب» (2010).] "كيف تغذي وسائل التواصل الاجتماعي ردود الفعل الفورية وتحوّل الأفراد إلى منتجين دائمين للسخط، وتبدّد طاقة الغضب في جعله حالةً سريعة الاشتعال. حالة مبعثرة وتستهلك ذاتياً، بدل أن تكون طاقة «سلبية» تميل إلى التحوّل الإيجابي فتكتسب بُعداً ثورياً"[ ࢷول مخلوف، Rage-bait كلمة «أوكسفورد» لهذا العام | الخوارزميات في خدمة الفتنة: لبنان يبتلع «طُعم الحنق»، الأخبار، الأربعاء 10 كانون الأوّل 2025
2. المفكِّر مزعِج يُصادم الجهل
لقد اعتاد أهل الكهف على الظلاميّة لأنّ النور يُزعجهم، كما تعوَّد أهل «طُعم الحنق» على الغضب السريع وتداعياته القاتلة. لِمَ؟ يقول نِعوم تْشُومْسكي:"لأنّ ليس على المفكِّر أن يقول للناس ما يُريدون سَماعه، بل أن يقول ما يجب أن يُعلَن". فالمفكِّر الحقيقيّ ليس بالضرورة إنسانًا محبوبًا بل مُزعجًا لأنّه يطرح اسئلة صعبة ويُزعزع المألوف؛ في حين يبدو المفكِّر المتزلِّف والمأجور صديق الجميع وعدوّ الحقيقة بآن لكَونه يُغازل الجهل ولا يوقظ النائم ليُقيمه "من بين ألأموات"[6 «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ». رسالة أفسس (5 :14).]، بل يروي له أحلامًا ورديّة.
لذا يتبيَّن أنّ ما يقوله المفكِّرون الأحرار غير شَعبَويّ ومرفوض من العامّة لأنّه يُثيرهم ويستفزّهم ويجعلهم مسؤولين عن تَداعيات سكوتهم المتواطݵ - عن جهل – مع مُخطّطات "مجلس العلاقات الخارجيّة"[ Council of Foreign Relations هو ، كما يُعرَّغ عن نغسه، "منظمة رائدة في مجال السياسة الخارجية، تضم عضوية قوية من الأفراد والشركات. يشمل الأعضاء الأفراد نخبة من أبرز قادة الشؤون الدولية، يجتمعون في حوار موضوعي حول أهم قضايا السياسة والحوكمة الراهنة".] الذي يُمثِّل "حكومة العالم الواحدة"[ صدر عدد من محلة "بلاج المراقبة" لـ "شهود يهوه" يجمل هذا العنوان في ثمانينيات القرن العشرين. ] الوحيدة. التي إن هي إلّا سلطة سياسية موحدة تحكم الأرض وتتجاوز سيادة الدول القومية وفاقًا لقَولَة روزفلت "لا توجد مصادفة من وراء حدث سياسي، فعندما يقع يمكن الجزم بأنه وقع هكذا وفق ما خطط له". والبرهان ما أكّدته دراسة لمعهد «مسغاف» الصهيوني للأمن القومي والاستراتيجي[ علي حيدر، هدف العدو أبعد من السلاح: تفكيك المجتمع والهوية، الأحبار، الأربعاء 9 كانون الأوّل 2025.
] تتناول "إعادة هندسة المجتمع الذي يُنتج المقاومة ويمنحها مشروعية البقاء". إذ يُعتبَر هذا الهدف "التحدّي الأصعب والأكثر تعقيداً (للصهاينة)، خاصة أن هذه الثقافة (ثقافة المقاومة) والروح قادرتان على الاستفادة من التجارب وإعادة إنتاج ما هو أكثر ملاءمة مع المتغيرات من موقع الصمود والتصميم والثبات".
تلك الهندسة والثقافة والروح تمنح صاحبها القدرة على معرفة ذاته والثقة بها، إلى الثبات والتصميم في الرؤية وفي الموقف، والصمود في وجه أيّ حرب - نفسيّة أَم روحيّة أَم وجوديّة. هذا ما عبَّر عنه بولس الرسول بقوله:"إلبَسوا ٱلإِنسانَ ٱلجَديدَ ٱلَّذي يتجَدَّد لِلمعرفة عَلى صورة خالقِهِ، حيث لَيس يونانِيّاً وَلا يهودِيّاً، ولا خِتان وَلا قلَف، وَلا أَعجمِياً وَلا إِسكوتِيّاً، وَلا عَبداً وَلا حرّاً، بل ٱلمَسيح هُو كلّ شَيء وَفي ٱلجميع". الإنسان الذي "يتجدّد على صورة خالقه" يكون شخصًا "مختلفًا" أي متميِّزًا وخلوقًا، يتعامل مع الآخر "المختلف" كما يريد أن يعامله هذا الأخير. إنسان حرّ يتعامل مع أُناس أحرار، يريد لهم مايريده لنفسه. شخص يرى فيهم صورة الذي برأهم لأنّه أحبّهم وأشركهم بحياته. لا يُميّز ولا يحتقر، عنده السردية التاريخية والأخلاقية التي "تبني الإنسان قبل السلاح، والمعنى قبل القوة، وتنسج شبكة من المؤسسات تجعل المشروع جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع لا مجرد إطار عسكري". صانع سلام لا منتِجاً للأسلحة الفتّاكة التي يُباد بها "المحتلف" على غرار المستعمِر، الذي "لا يُواجه تنظيماً مسلحًا، بل مجتمعًا متجذرًا في التاريخ والثقافة، يتجدد عبر الأجيال ويملك روايته الخاصة عن نفسه وعن العالم". رهان المستعمِر "تفكيك المقاومة من داخل الإنسان، لا من بين يديه فقط" على غرار ما نشهده اليوم. الانسان الجديد يُسرع لتنفيذ دعوة سيّده يسوع:"أُخرُج إِلى ٱلطُّرُقِ وَٱلأَسيِجَة، وَٱضطَرِرهُم إِلى ٱلدُّخولِ حَتّى يَمتَلِىءَ بَيتي".فإِنَّهُ لا يَذوقُ عَشائي أَحَدٌ مِن أولَئِكَ ٱلرِّجالِ ٱلمَدعُوّين" يقول الربّ. "فَإِنَّ ٱلمَدعُوّينَ كَثيرونَ، وَٱلمُختارينَ قَليلون". أليس هذا ما حدث مع اليهوديّ المدعو وأهمل رغبة المُحبّ لغاية في نفسه؟
نبض