جبران تويني… ابن بيروت والحرية
وديع الخازن، وزير سابق وعميد المجلس العام الماروني
في الذكرى العشرين لاستشهاد جبران غسان تويني ورفاقه، الرجل الذي غادرنا جسداً في الثاني عشر من كانون الأوّل 2005 وبقي فكرة حيّة تشتعل في عمق الوجدان اللبناني، نستعيد صورة ذاك الشاب الذي حمل لبنان في صوته وحروفه ووقفته، وجعله قضية وجود لا مجرّد هوية على جواز السفر.
كان جبران تويني وارثاً لرسالة عريقة تجذّرت في بيتٍ عاش على وقع الحبر، وتربّى على خشوع الكلمة واحترام قدسيّتها. ولد في قلب بيروت، تلك المدينة التي تشبهه في عنادها وجرأتها وتمرّدها. لم يكن صحافياً تقليدياً ولا سياسياً عابراً، بل شخصية مقاومة بالفكر لا بالسلاح، مناضلة بالكلمة لا بالشعارات، تؤمن بأنّ الحقيقة قد تُكلِّف صاحبها أغلى ما يملك، لكنه اختار أن يدفع الضريبة كاملة دون تردّد.
آمن جبران بأنّ لبنان ليس مساحة جغرافية فقط، بل رسالة للعالم، نموذج للتلاقي بين حضارات وثقافات وأديان، وبأنّ هذا النموذج لا يقوم إلا بالحوار والانفتاح والحرية. ولذلك كان يعتبر أنّ الدفاع عن حرية الرأي والصحافة ليس منفعة مهنية، بل واجب وطني وشرط بقاء.
أدرك أن الشعوب التي تصمت أمام الخوف، تفقد نفسها قبل أن تفقد أوطانها، فاختار أن يظل صوته مرتفعاً ولو على حساب حياته. جعل من صحيفة "النهار" قلعة متينة للديموقراطية، ومنبراً للأصوات التي أرادت قول الحقيقة في زمن كانت الحقيقة فيه جريمة. وحين وقف يوماً مخاطباً اللبنانيين بكلماته الشهيرة "نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحّدين إلى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيم"، كان في الحقيقة يؤدّي قَسَمَ حياته كلها.
لم يكن يكتب النصّ، بل كان يكتب العمر كله في جملة واحدة. ومع أنّ خصومه حاولوا إلصاق تهمة التطرّف السياسي به، إلا أنه بقي حتى اللحظة الأخيرة يؤمن بضرورة المصالحة الوطنية وتعدّدية الرأي وتكامل المكوّنات اللبنانية.
دخل جبران مجلس النواب باعتباره صوت الناس لا صوت السياسة، ورفع داخله القضايا التي اعتاد أن يرفعها على صفحات الجريدة وفي الشارع. لم يخشَ التهديد ولم يقبل التراجع في مواجهة الوجود السوري في لبنان، وظلّ يطالب بالحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وفي سلسلة الاغتيالات التي أرادت إخماد نبض الحرية في وطننا. كان يدرك أنّ ثمن الكلمة الحرّة قد يكون الحياة نفسها.
وفي صباح الإثنين الأسود، 12 كانون الأول 2005، دوّى انفجار في منطقة المكلّس وحطّم سيارة جبران، فظنّ القتلة أنهم باغتياله يطوون صفحة "النهار"، ويخنقون الصوت الأخير. غير أنّ الدم الذي أريق لم يكن دم رجل فقط، بل كان توقيعاً جديداً لرسالة لبنان.
فالشهادة التي أطفأت جسده، أضاءت وجه القضية. نعم، كانت الصدمة بحجم الوطن كلّه، وكانت الحسرة جرحاً عميقاً في قلب بيروت التي اعتادت أن تدفن أبناءها الشجعان، لكنّ موت جبران لم يكن نهاية الحكاية، بل لحظة ولادة أخرى لفكرة أكبر من الاغتيال.
وبعد عشرين عاماً، يبقى السؤال: ماذا تبقّى من شهيد الحرية؟ تبقى "النهار"، ويبقى القسم، وتبقى الفكرة التي لا تموت. يبقى صوت جبران في وجدان الوطن، في كل جملة تُكتب دفاعاً عن الحقيقة، وفي كل موقف يقف ضد الظلم والوصاية، وفي كل دعوة إلى الوحدة بين اللبنانيين. حاول كثيرون تشويه صورته أو إفراغ كلماته من معناها، لكنهم عجزوا، لأن من يزرع نفسه في ذاكرة وطن لا يمكن أن يُمحى.
جبران تويني ليس شهيد فريق ولا شهيد طائفة. هو شهيد لبنان كلّه. شهيد الاستقلال الثاني، شهيد الحرية التي لا تُشترى، شهيد الكلمة التي تكسر حاجز الخوف. وهو في شهادته الأولى والأخيرة، شهيد الإنسان. واليوم، في ذكراه العشرين، نقف بخشوع ونقول له: يا جبران، إنّ رسالة "النهار" ما زالت تُكتب، وإنّ الكلمة ما زالت تقاتل، وإنّ القسم الذي أعلنته باقٍ في ضمير كل من يؤمن بلبنان السيادة والحرية.
نم قرير العين أيها الغائب الحاضر، فلبنان الذي آمنت به سيعود، مهما طال الليل، ومهما اشتدّ الخطر، لأنّ الأوطان التي تُشيَّد بدماء الشهداء لا يمكن أن تنهزم ولو غاب أصحابها أجساداً، ما دامت أرواحهم تضيء الدرب وتبقى شاهدة على التاريخ.
نبض