نحو فهم إيران الصفوية

منبر 11-12-2025 | 10:08

نحو فهم إيران الصفوية

حين نقترب من إيران الصفوية بعين المؤرخ السياسي وحدها، فإننا نرى دولة ناشئة تتبنّى التشيّع الإمامي، وتؤسس مركزية سلطوية تمتد من أذربيجان إلى الخليج. 
نحو فهم إيران الصفوية
ولاية الفقيه بعد ثورة الخميني
Smaller Bigger

باسم الموسوي - باحث سياسي




حين نقترب من إيران الصفوية بعين المؤرخ السياسي وحدها، فإننا نرى دولة ناشئة تتبنّى التشيّع الإمامي، وتؤسس مركزية سلطوية تمتد من أذربيجان إلى الخليج. لكن هذه الصورة الرسمية تبقى سطحاً يتوارى خلفه عالمٌ أعمق، عالم من الخيال الديني والطقوس والأساطير والذاكرة السرية التي لا يمكن معها فهم الصفوية إلا إذا عدنا إلى لحظة تشكّلها بوصفها حركة روحية قبل أن تكون دولة. هذا بالضبط ما ينجزه كتاب Mystics, Monarchs, and Messiahs لكاثرين بابايان، إذ يفكّك الأسس الباطنية والثقافية التي قامت عليها الثورة الصفوية، ويكشف أنّ الغلوّ والنقطوية لم يكونا هامشين، بل كانا يشكلان جزءاً عضوياً من نَفَس تلك المرحلة ومن السردية التي صنعت إيران الحديثة.

في قلب هذا الكتاب يقف مفهوم الغلوّ، لا باعتباره انحرافاً عقائدياً كما تراه الأدبيات السنية والشيعية الرسمية، بل بوصفه تجربة روحية ممتدة تعبر العصرين المتأخرين من العصور القديمة، وتعيد إنتاج ثنائية الروح والمادة بطريقة تذيب الحدود بين الإلهي والبشري. الغُلاة، في رواية بابايان، هم جماعات من المتصوفة والمتمردين والباحثين عن معنى للحقيقة خارج القوالب الفقهية المتصلبة، يؤمنون بأنّ الزمن لا يُفهم إلا كدورة مستمرة، تتوالى فيها العصور، ويظهر فيها الأنبياء والمخلّصون مجدداً. وهو تصور يختلف عن الرؤية الخطية للتاريخ التي تتبناها الأديان الإبراهيمية، حين تنظر إلى الزمان بوصفه يبدأ بخلق وينتهي بقيامة. أما الغُلاة، فإنهم يرون سلسلة لا تنتهي من التجلّيات، حيث تتجدد الحقيقة في جسد بشر جديد كلما استدعى الكون لحظة كونية من التحوّل.

هذا الفهم العميق للزمن يظهر بوضوح عند القزلباش، الذين حملوا إسماعيل الصفوي إلى السلطة. كان القزلباش يؤمنون بأنّ إسماعيل ليس مجرد قائد سياسي، بل مظهر للحقيقة الإلهية، ومزيج من إرث الأنبياء الذين سبقوه، ومن سلالة الملوك الإيرانيين الذين ترويهم الشاهنامة. كانوا يفهمون وجوده على أنه تجسّد لواحدة من تلك اللحظات الدائرية، التي يعيد فيها العالم ترتيب نفسه، فينهض المنقذ ليعيد العدل المسلوب ويسترجع المجد المفقود. لهذا السبب، لم يُقاتل القزلباش إسماعيل باعتباره ملكاً، بل باعتباره مخلّصاً. وقد دخلوا في معاركهم كما يدخل العارف في حالته الروحية، بقلوب مشتعلة وبصدور مفتوحة، وبإيمان يجعلهم يرون البركة درعاً أقوى من الحديد.

لكن الغلوّ الذي صنع الثورة الصفوية لم يلبث أن صار عبئاً على الدولة نفسها. فما أن تحوّل إسماعيل إلى ملك حتى بدأت الدوائر المتشددة في الحكومة تبحث عن استقرار سياسي وعن شرعية قانونية، الأمر الذي أجبر المؤسسة الحاكمة على تقليص مساحة الغلوّ لصالح التشيّع الإمامي المنظَّم. وهكذا، تحوّل خطاب إسماعيل من خطاب مهدويّ إلى خطاب ملكي، وصار على الدولة الناشئة أن تُعيد كتابة تاريخها بطريقة تقطع مع الموروث الثوري الذي رافقها، وتُخفي جذورها الغالية والعرفانية لتظهر بصورة مملكة شيعية تقليدية. في هذه اللحظة بدأت المسافة تتسع بين روح الثورة وروح الدولة، وبدأت طبقات جديدة من الصراع تتشكل بين الأجنحة الأكثر باطنية والأجنحة الأكثر رسمية داخل الصفوية.

لكنّ الغلوّ لم ينتهِ، بل وجد شكلاً جديداً له في حركة النقطويين. هؤلاء المثقفون والمتصوفة، الذين أعادوا بناء تصور شامل للكون يقوم على دورات زمنية متعاقبة، يرون أن التاريخ يتحرك في أربعة عصور كبرى، وأنّ العصر العربي الذي بدأ مع الإسلام آيل إلى الانتهاء، ليبدأ عصر إيراني جديد يتجلى فيه المخلّص العجمي، وتستعاد فيه الهيمنة الروحية والثقافية لإيران. لقد رأى النقطويون أنفسهم امتداداً لإرث زرادشتي وفارسي عميق، لكنهم تحدثوا بلغة إسلامية، وتعاملوا مع القرآن والنبوة بوصفهما مراحل ضمن سلسلة متصلة من الوحي. ولهذا لم يكن صراعهم مع الصفويين صراعاً مذهبياً بقدر ما كان صراعاً فلسفياً حول من يحتكر معنى الزمن ومن يمتلك الحق في تفسير لحظة النهاية وبداية الدورة الجديدة.

في هذا السياق يقرأ الكتاب المواجهات العنيفة التي حصلت بين النقطويين والشاه عباس الأول على أنها صراع بين رؤيتين للزمن: رؤية ثورية، مفتوحة، لا نهائية، تستمر فيها النبوة، ورؤية سلطوية رسمية تحتاج إلى تاريخ خطيّ يمكن ضبطه وتقنينه وتكييفه مع مقتضيات الدولة. وحين ضُربت النقطوية ونُفيت جماعاتها، كانت الصفوية قد قطعت شوطاً بعيداً في إعادة تشكيل هويتها، لتتحول من حركة مخلّصية تعتمد على الرموز الإيرانية القديمة إلى دولة مذهبية تعتمد على المؤسسة الفقهية.

يقدّم كتاب بابايان هذه التحولات لا باعتبارها مجرد تغيّرات سياسية، بل باعتبارها لحظات إعادة إنتاج للخيال الجماعي. فالصفوية لم تكن مجرد انقلاب سياسي، بل كانت إعادة كتابة للذاكرة الإيرانية، حيث تمتزج الأسطورة بالتصوف بالعلوية ليولد شكل جديد من الإسلام يتخذ من التاريخ الإيراني القديم نَفَساً، ومن الولاية العلوية قلباً، ومن الغلوّ جسراً يصل بين العالمين. لذلك، فإن الكتاب يعلّمنا أنّ فهم الصفوية يحتاج إلى قراءة لغة الرموز، وذاكرة الطقوس، والأدوار التي لعبتها الأساطير في إنتاج الهوية.

وهذا الدور هو ما يجعل الكتاب مرجعاً فريداً لفهم إيران ما قبل الحديثة. فهو يضعنا أمام واقع أنّ الدولة الصفوية لم تقم فقط على الفقه الإمامي، بل قامت على شبكة واسعة من المعاني التي ورثت عناصرها من التراث الإيراني القديم، ومن التصوف، ومن سرديات الغلوّ. إنّ الدولة التي ظهرت عام 1501 لم تكن مجرد كيان سياسي بل كانت ثمرة مخيال جماعيّ صنعته الحكايات، والقصائد، والملاحم، والرؤى الصوفية، وحركات المعارضة الروحية مثل النقطوية، وطقوس الحداد والولاء العلوي، ومفاهيم الزمن الدائري والظهور المتكرّر.

إن الدور الأكبر للكتاب أنه يعيد الإنسان إلى قلب التاريخ الصفوي، لا الإنسان بوصفه مقاتلاً أو مسؤولاً أو فقيهاً، بل الإنسان الذي يحلم ويتخيّل ويتصور العدل على هيئة مخلّص، ويرى الزمن دائرة لا تنتهي، ويعتقد أن الكون مليء بالإشارات التي تدلّه على أن الحقيقة قابلة للظهور مرة بعد أخرى. بهذا المعنى، يصبح التاريخ الصفوي ليس مجرد انتقال سلطة من يد إلى أخرى، بل قصة مجتمع يبحث عن معنى وجوده، ويعيد اختراع ماضيه ليفهم حاضره، ويكتب أسطورته ليصنع دولته.

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
المشرق-العربي 12/11/2025 6:15:00 AM
قذائف المزّة والعمليتان اللتان لم يفصل بينهما شهر تحمل رسائل تحذيرية إلى الشرع وحكومته، والرسالة الأبرز مفادها أن القصر الرئاسي تحت مرمى الصواريخ.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:25:00 AM
إنّها المرة الأولى التي تتهم المنظمة "حماس" وفصائل أخرى بارتكاب جرائم ضد الانسانية.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:10:00 PM
شدد على ضرورة منح المحافظة حكماً ذاتياً داخلياً أو نوعاً من الإدارة الذاتية ضمن سوريا كوسيلة لحماية الأقليات وحقوقها.