حين تتسلّل الشاشة إلى قلب البيت… هل ما زالت الخلافات تُصنع بين قلبين فقط؟
ناهيا أبو ابراهيم - خبيرة علاقات زوجية وتنمية ذاتية
لم تعد الخلافات الزوجية اليوم وليدة كلمة قاسية أو موقف عابر؛ ما تسجّله محاكم الأحوال الشخصية يكشف أن طرفاً ثالثاً بات يقيم في البيوت بلا استئذان: شاشة صغيرة، بضيائها الأزرق الخافت، تعرف من تفاصيل النفس ما قد لا يعرفه الشريك القريب. تحوّل فضاء التواصل الاجتماعي من مساحة ترفيه إلى عالمٍ موازٍ يُعيد تشكيل معنى العلاقة، ويحرّك أغوار اللاوعي قبل السلوك الظاهر؛ يفتح باب المقارنة، ويوقظ الشك، ويزرع غياباً نفسياً رغم حضور الجسد، حتى يصبح الصمت بين الزوجين أكثر امتلاءً من الكلام.
ليست الأزمة أزمة هاتف.

إنها أزمة معنى… وأولويات… وحدودٍ لم تعد محفوظة كما كانت.
يتسلّل أثر وسائل التواصل لا عبر ما نراه بأعيننا، بل عبر الرسائل الخفية التي يلتقطها الداخل من دون أن نتنبه. انشغال أحد الزوجين الدائم بشاشته يُترجم في الوجدان على نحو صامت: "أنا لستُ في مقدمة أولوياتك". وإخفاء الشاشة لحظة مرور الآخر لا يمرّ عابراً؛ بل يُقرأ إشارة خطر. أما المقارنات اليومية بحياة الآخرين المصقولة بعناية، فهي تُنتج شعوراً أن الواقع أقل إشراقاً مما يجب أن يكون، وأن حياة الزوجين لا ترقى إلى تلك النسخ الافتراضية المثالية.
هكذا، وببطءٍ لا نشعر به، تتسع المسافة النفسية… حتى تصبح خلافاً واضحاً يصعب تجاهله.
وحين تتكرر الأعراض، يصبح استخدام وسائل التواصل خطراً على العلاقة، لا لأنه مؤذٍ في ذاته، بل لأنه يفضح احتياجاً لم يُعالج: هروبٌ رقميٌّ يتقدّم على المواجهة، غموضٌ يفتح باب التأويلات، مقارنة يومية تُنهك الرضا، واستنزاف تنبه يجعل الشريك يشعر أن قيمته تتراجع أمام إشعارٍ عابر. هنا يبدأ الشرخ النفسي، لا بفعل الهاتف، بل بفعل ما يكشفه حول ترتيب المكانة في القلب.
ويبقى الخطّ الفاصل بين "القلق المشروع" و"التعدّي على الخصوصية" رقيقاً ودقيقاً. فحين يدفع الغموض أحد الطرفين إلى طلب توضيح، يكون ذلك مطلب أمان. أما حين يتحوّل الأمر إلى تفتيش ومراقبة واشتراط كلمات سر، فيتحوّل الزواج من شراكة إلى وصاية. والثقة، مهما حاول البعض، لا تُبنى بالملاحقة، بل بالاتساق بين القول والفعل، وبوضوحٍ يسمح للطرفين أن يقفا على أرض واحدة من دون خوف.
أما معالجة الخلافات الرقمية، فلا تبدأ من الهاتف بل من الإنسان. تبدأ بوعي الذات: ما الذي يثير غيرتي أو خوفي؟ هل هو جرح قديم؟ نقص ثقة؟ أم سوء تواصل؟ ثم بوعي العلاقة: هل الوقت المشترك كافٍ؟ هل الحوارات صريحة؟ هل يشعر كل طرف بالأمان العاطفي؟ وبعدها يأتي ترتيب الأولويات: أن تكون العلاقة قبل الشاشة، وأن يكون الوقت بين الزوجين محمياً من ضجيج الإشعارات.
وفي التجارب والممارسات العلاجية وملفات المحاكم، تتكرر حلول تتشابه في جوهرها: جلسة مصارحة هادئة تُقال فيها المشاعر لا الاتهامات، ميثاق رقميّ مشترك يحدّد حدود التفاعل مع العالم الافتراضي، شفافية طوعية لا تُفرض بالرقابة، وفهم للنيات قبل الحكم على السلوك؛ فالكثير من التصرفات ليس خيانة للثقة، بل عادةٌ سيئة أو هروب من ضغط اللحظة.
الحقيقة أن وسائل التواصل ليست العدو الحقيقي للعلاقات. الخطر يبدأ عندما تضعف الثقة، وتغيب الحوارات، ويصبح الانسحاب إلى الشاشة أسهل من الالتفات إلى الشريك. العلاقة التي تهتزّ أمام إشعار، كانت تحتاج ترميماً قبل أن يهتز الهاتف. أما العلاقة التي تصمد، فهي تلك التي يبنيها الوعي والاحترام والأولوية المتبادلة.
ولعل أجمل ما يختصر المشهد كله:
"العلاقة التي لا نحرسها بحضورنا… سيفترسها غيابنا."
نبض