السارق الأبدي
ريمون مرهج
فجأة وبينما تمر الأيام نكتشف أن العمر قد اقترب من المحطة الأخيرة في هذه الحياة. فجأة نشعر أن نظرنا بدأ يشح وأن ذاكرتنا بدأت تخوننا. على حين غرة نشعر أن عضلات جسدنا تخور وتتلاشى شيئاً فشيئاً وأن ملاحظات كثيرة بدأت تنهال علينا من الآخرين: "انتبه من السقوط أرضاً، أسكب الماء على مهلك فيدك ترتجف، ركّز وأنت تتحدث فدوماً تتفوه بكلمات لا معنى لها".
نعم تجتاحك مشاعر مؤلمة كلما تلقيت تلك العبارات وتشعر بصفعة قوية على وجنة كرامتك، فتردد في أعماقك: أنا، أنا من أضحى على هذه الحال؟ أنا من كان للرجال مثالاً، للشباب قدوة في الإبداع وقوة تقهر الجبالا؟. آه، كم تخنق روحك تلك الأحاسيس وكم أن الوقت هذا السارق الرهيب، كم هو قاس وظالم، لا يقبل المساومة ولا أن يتوقف لبرهة مهما قدمنا له من تضحيات ولو وهبناه كل كنوز العالم فلا يرحم ولا يتردد في السير بعمرنا نحو النهاية. يسرق منا العافية والأمل والسعادة.

ينهمر الصمت على روحنا حينما نغدو في لب هذه الأزمنة ونبحر في محيطات التأمل ونغوص في أعماق ماضينا، نسترجع ذكرياتنا منذ الطفولة إلى أمسنا القريب، فنستحضر انجازاتنا والأيام الجميلة من عمرنا ثم نشعر بشوق وحنين إلى أحباء سبقونا وغادروا الدنيا وكم عشنا معهم أطيب الأوقات وكم بلسموا جراحنا مراراً حينما كانت تواجهنا المصاعب والشدائد. يسود سكون في لحظات التأمل ونشعر برهبة الموت الآتي حتماً وما يخبئ لنا من بعد رحيلنا من هذا العالم. غريبة هذه الحياة وسارق ماكر هو الوقت الذي لا ينكفئ أبداً في دفعنا نحو هوة النهاية.
ما يعزينا فعلاً أبناء، أصدقاء وأحباء يهتمون لأمرنا ويقدرون ما قدمناه من تضحيات لأجلهم وما صنعناه في وطننا لأجل مستقبلهم فلا يهملوننا ولا يستهزئون من شيخوختنا، بل يغمروننا بروحهم ونحضنهم بصلاتنا وروحنا. الحياة جميلة ولكن الأجمل أن نرى حصاد ما زرعناه في هذه الأرض، وأن نخزن في أفئدتنا خميرة المحبة وكنز أعمالنا الخيرة لنقدمها للخالق حينما تحين ساعة اللقاء به.
نبض