على عتبة الحقيقة: شهادة القضاء للناس
المحامي ربيع حنا طنوس
في مسار الدولة المثقلة بالعقود والالتزامات والشكوك، كثيراً ما تتوارى الحقيقة خلف طبقات من الضجيج، وتبقى الوقائع أسيرة ما يُقال أكثر ممّا يُثبت. ومع ذلك، لا يفقد القانون قدرته على الإضاءة حين يُستدعى إلى منصة القضاء. فهناك، على عتبة الحقيقة يستعيد الوطن وضوحه، وتستعيد العدالة دورها الطبيعي كمرجع نهائي لا ينازعه تقرير ولا تغلبه انطباعات.
وفي هذا الإطار، يبرز موقع ديوان المحاسبة كحارس يقظ على المال العام، ومحكمة مالية تعيد ميزان الدولة إلى اعتداله كلما زاغت الإدارات أو ترددت السياسات. ليس هو جهازاً ادارياً فحسب، بل سلطة قضائية تتقاطع فيها الدقة مع المسؤولية، وتلتقي فيها الأرقام مع المبادئ لتؤكد أن حماية المال العام ليست خياراً، بل واجب يُنتظر من كل من تولّى سلطة أو أوكل إليه قرار.

ولعلّ ملف الاتصالات الذي شغل الرأي العام لسنوات طوال، ودار حوله الكثير من الكلام والظنون والتقديرات، لم يجد طريقه إلى خاتمة واضحة إلا حين عاد إلى ميزان القضاء المالي. فهناك وحده، وبعيداً من الضوضاء، تُقاس الأفعال بمدى أثرها على الدولة وتُفحص القرارات بمعيار واحد: هل حمت الخزينة العامة أم أرهقتها؟ وحين نطق الديوان قراره، بدأ القرار اشبه بتصفية نهائية للالتباس وبعودة صريحة للحق إلى موضعه.
في هذا السياق يبرز دور الوزير بطرس حرب كرمزٍ للقرار الجريء والمسؤول، فقد أقدم على فسخ عقد الإيجار الذي كان سيُلحق بالدولة خسائر محققة تُقدّر بحوالى عشرين مليون دولار. ولم يكن هذا القرار مجرد إجراء إداري، بل كان تجسيداً للواجب الوطني، وحماية المال العام، ما دفع ديوان المحاسبة إلى إعفائه من أي مسؤولية أو عقوبة مالية. وفي المقابل، أثبت الديوان أن وزراء آخرين لم يلتزموا مثل هذا المعيار، فكانت مسؤوليتهم ثابتة أمام القانون، بما يعكس عدالة القضاء وقدرته على التمييز بين الخطأ الواجب العقاب وبين القرار الذي يحمي الدولة.
تأتي أهمية هذا القرار من بعده القانوني ايضاً. فهو اجتهاد قضائي يرسخ مبدأ المشروعية في إدارة المال العام، ويعيد ضبط العلاقة بين الإدارة وحدود صلاحياتها، ويوضح أن الرقابة القضائية ليست إجراء شكلياً، بل ضمانة تحمي الدولة من تجاوزات قد لا تظهر نتائجها فوراً، لكن تُصاب بها المالية العامة في العمق. إنّ قرار الديوان ليس حكماً في ملف، بل إطارٌ ناظم لمسارٍ ترعاه العدالة وتستقيم به الإدارة.
وعليه، تبقى التجارب العامة محكومة بمعيار واحد: أثرها في الناس وفي الدولة. ومن يقف أمام هذا الأثر يدرك أن العمل الذي يصون المال العام لا يُدان وان الموقف الذي يحمي الدستور لا يُستباح.
فالقضاء، حين يقول كلمته يعيد للدولة توازنها والمؤسسات قيمتها، وللناس ثقتهم بأن الحقيقة وإن طال غيابها لا تضيع حين تجد طريقها إلى قاضٍ عادل.
وهكذا، يصبح القرار الصادر عن ديوان المحاسبة الرقم 165 / 2025 تاريخ 20 /11 / 2025 قراراً مبدئياً، وشهادة واضحة تقدم إلى الناس: ان دولة القانون مازالت قادرة على استعادة صورتها، وأن العدالة، وإن تباطأت، لا تتراجع عن رسالتها ولا تترك الحقيقة في العتمة. ومن هذا المنظور، يبقى هناك رجالات يعرفون قيمة الوطن والدستور، والمال العام، أمثال الوزير بطرس حرب، الذين لا تصنعهم الظروف، ولا الضغوط، بل يصنعهم الضمير والواجب، يخطون خطوات حازمة لحماية الدولة ومؤسساتها ويثبتون أن المسؤولية والجرأة ممكنتان حتى في أصعب الأزمات، هؤلاء هم من يجعلون العدالة حيّة، والحقيقة واضحة، ويذكروننا بأن الدولة تبنى على صرامة القانون وعلى نبل الرجال الذين لا تسقطهم ادعاءات ولا تثنيهم اتهامات.
نبض