التوازن الجغرافي الإيراني بين مصالح الولايات المتحدة وروسيا والصين
*د. إلياس ب. باسيل
ينطوي الدورُ المحتمل لإيران في السماح للصين وروسيا، أو لأيٍّ منهما، بالوصول إلى المحيط الهندي براً أو بتزويدهما موانئ مدنية أو عسكرية على المحيط الهندي، على آثار خطرة تطال الإستراتيجية العالمية، إذ سيؤدّي ذلك، على وجه الخصوص، إلى تفكيك هيمنة الولايات المتحدة على نقاط الخَنْق البحرية الإستراتيجية العالمية (strategic maritime choke-points)، بما يُقوِّض موقفها الإستراتيجي حيال منافسَيْها الرئيسَيْن، روسيا والصين، اللذين تعوقهما سيطرةُ القوات البحرية للولايات المتحدة وحلفائها. وسيُغيّر ذلك استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران وإسرائيل وغيرهما، وليس فقط تجاه روسيا والصين.
لذا، الأرجح أنّه ليس من قبيل المصادفة أن يذكر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان فتحَ الطريق البرّي إلى تشابهار، الميناء الإيراني الوحيد على المحيط الهندي، في القمّة الأخيرة لمجموعة شنغهاي في آب ٢٠٢٥، بعدما امتنعت إيران عن القيام بذلك طوال ستةٍ وأربعين عاماً من الصراع مع الولايات المتحدة. وكذلك من غير المرجّح أن يكون من قبيل المصادفة أن تكون الغارات الجوية على البرنامج النووي الإيراني في ٢٢ حزيران ٢٠٢٥ قد حدثت في غضون شهرٍ من إطلاق خط سكة حديد من الصين إلى قرب طهران في ٢٥ أيار، على الرغم من أنّه لم يكن متصلاً مباشرة بالمحيط الهندي أو بموانئ إيران في الخليج.

علاوة على ذلك، من غير المرجَّح أن تكون مصادفةً أن وافق البرلمان الإيراني على المعاهدة الإستراتيجية مع روسيا في ٢١ أيار، وصدّق عليها مجلس الخبراء في ١١ حزيران، في الشهر نفسه الذي سبق تلك الغارات الجوية الأميركية المحدودة، على الرغم من أنّ المعاهدة لا تتضمّن أحكاماً للدفاع المشترك، بل فقط اتفاقَ عدم اعتداء "موسَّع" بين روسيا وإيران.
تندرج محدودية الضربات الأميركية المذكورة أعلاه لإيران ضمن سياق النزاع منخفض السقف بينهما منذ خروج الشاه من الحكم وحلول النظام الحالي محلَّه بسقوط حكومة شاهبور بختيار في شباط ١٩٧٩. ويتلخّص ذلك النسق بزيادة الضغط الأميركي على إيران تدريجاً بالأفعال الديبلوماسية والاستخبارية والعقوبات الاقتصادية، ممزوجةٍ ببعض الأفعال العسكرية النادرة والمحدودة، والتي كانت أقساها ضربات حزيران ٢٠٢٥، مع إبقاء كلّ ذلك تحت سقفٍ لا يُسقط النظام الإيراني بل يحضّه، ولو بالضغط السلبي، على التعايش مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. أمّا معاملة الولايات المتحدة الأميركية لإيران بشدّةٍ لا تصل إلى إسقاط نظام الحكم فيها، كما تقدّم، فأسبابها متشعّبة، لكنها تنبع من مصدرٍ واحد هو موقع إيران الجغرافي. لذا لم تُسقط الولايات المتحدة الأميركية نظام الحكم في إيران منذ ١٩٧٩ بالقوة العسكرية رغم عدائه الفعّال لها ولحلفائها، خصوصاً من يقع منهم بجوارها في الشرق الأوسط، في حين لم تتردّد في إسقاط الأنظمة المعادية لها والمجاورة لإيران جغرافياً، أي حُكْمَي "طالبان" في أفغانستان وصدّام حسين في العراق، بالاحتلال العسكري البرّي، بما يتخطّى القصف الجوي والصاروخي البعيد المدى والمحدود الفاعلية الذي قامت به ضد إيران في حزيران ٢٠٢٥.
تفسيراً لذلك، تؤدي جغرافية إيران، بفرعَيها الطبيعي والديموغرافي، دورَيْن رئيسيْن في امتناع الولايات المتحدة عن محاولة إسقاط النظام الإيراني بالقوة العسكرية كما فعلت في أفغانستان (٢٠٠١) والعراق (٢٠٠٣). ويقتصر تأثير الخطاب الأيديولوجي في هذا الأمر على تعبئة الطرفين لجماهيرهما لأغراض سياسية يبقى أساسها مصلحياً بحتاً، بينما يقوم تنفيذها أو الامتناع عنها بمعظمه على اعتبارات مادية لا عقائدية، أهمها الجغرافيا، كما يلي:
أولاً: في الجغرافيا الطبيعية، تُدرك الولايات المتحدة الأميركية أن لا بديل من موقع إيران في نظر منافسَيْها الرئيسَيْن، روسيا والصين، إذا ما أرادتا تفادي نقاط الخنق البحرية التي تُسيطر الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على معظمها. يمتدّ حزام الخنق البحري هذا من اليابان إلى القطب الشمالي بسلسلة من المضائق البحرية التي لا تزال تهيمن عليها البحريات الغربية هيمنةً طاغية، وإن لم تكن تامة. فشرقاً نحو الغرب ثم شمالاً بالنسبة إلى أوراسيا، تحكم بحريات الغرب مضائق تايوان وملقة وباب المندب والبوسفور وجبل طارق والمضيقَيْن المحيطَيْن بشبه جزيرة جوتلاند، فضلاً عن مضيق الدانمارك بين آيسلندا وغرينلاند وغيرها. هذا الحزام الإستراتيجي لا يُبقي لروسيا مرافئ بحرية عسكرية كثيرة لا يُغلقها الجليد شتاءً، في شكلٍ كلي أو جزئي، ومنها مرافئها على البحر الأسود الواقعة أيضاً تحت قبضة الولايات المتحدة الأميركية من خلال تركيا، حليفها في حلف شمال الأطلسي (NATO). فتركيا تُسيطر على حركة القطع البحرية الروسية المنطلقة من مرفأ سيباستوبول في القرم إلى خارج البحر الأسود من خلال سيطرتها على مضيق البوسفور وبحر مرمرة ومضيق الدردنيل، بموجب معاهدة مونترو لسنة ١٩٣٦ (Montreux Convention of 1936). إذ يمنع التفسير التركي لتلك المعاهدة مرورَ السفن الحربية الروسية بحرية، حجماً ونوعاً. فمثلاً، لا تسمح تركيا لحاملات طائرات روسية بالمرور في تلك المضائق الثلاثة مما يُجبر روسيا على تصميمها بما يُتيح تسميتها "قاذفات صواريخ استراتيجية"، وأن تُبقيها ضمن وزن إزاحي مائي (Displacement Weight) معيّن، فضلاً عن محدّدات معوّقة أخرى.
أمّا الصين، فكل مرافئها العسكرية عرضة للحصار من البحرية الأميركية وحلفائها لوقوعها ــ باستثناء قاعدة جيبوتي ــ ضمن منظومة جنوب–شرق آسيا العسكرية التابعة للولايات المتحدة وحلفائها، الممتدّة من مضيق ملقة إلى أوستراليا، مروراً بالفيليبين وتايوان واليابان.
ثانياً: في الجغرافيا البشرية، تُدرك الولايات المتحدة الأميركية أن سقوط النظام الإيراني القائم سيُحكِّم روسيا في الفُتات الإثني والمذهبي الذي سينجم عنه بسبب قربها الجغرافي، في استعادة موسَّعة لاجتياحها لشمال إيران عام ١٩٤١ وإقامتها دولة كردية ودولة أذرية هناك حتى ١٩٤٦، خلافاً لما أرادته بريطانيا والولايات المتحدة آنذاك. وهذا سيسهّل وصول روسيا، بعد فترة قصيرة، إلى المحيط الهندي المفتوح على جميع محيطات العالم من دون ممرات مائية يمكن الغرب السيطرة عليها، فيُعطَّل مفعول الحصار المُضمَر الذي لا تزال بحريات الغرب تُقيمه حول روسيا والصين. أمّا وصول الصين إلى المحيط الهندي من خلال إيران المقسَّمة عِرقياً ومذهبياً في حال سقوط نظامها الحالي، فسيتبع وصول روسيا إليه بفترة وجيزة، إذ ستُسهِّل روسيا ذلك للصين بسبب حاجتها المتنامية إليها في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها، مزيلةً كذلك الحصارَ البحري على الصين من خلال مضائق تايوان وملقة وغيرها.
اختصاراً، تعي الولايات المتحدة الأميركية قيمةَ إيران في نظر روسيا والصين لإدراكها أنّ المنظومة البحرية الفعّالة التي بنتها لاحتوائهما مُعرَّضة للتهديد جذرياً إذا سهَّلت إيران المرور البرّي لروسيا والصين إلى المحيط الهندي، كما لوّح الرئيس الإيراني في قمة مجموعة شانغهاي الأخيرة في حضور رئيسَيْ هذين البلدين، وغيرهما من الدول التي قد تُساهم أراضيها في تحقيق ذلك، مثل كازاخستان وأوزبكستان. وتُفضي المعطيات أعلاه ــ وغيرها مما لا يتّسع هذا النص لمعالجته بشكلٍ وافٍ ــ إلى نتيجة واحدة، هي أنّ الولايات المتحدة الأميركية وإيران مُتجهتان إلى مواجهةٍ متصاعدة على المدى القصير لن تصل، على الأرجح، إلى حربٍ موسَّعة، ثم تذهبان في المدى المتوسط إلى تعايشٍ على خلفية نزاعية، أي إلى نوع من modus vivendi، لينحو ذلك التعايش بينهما في المدى الأبعد في اتجاه الاستقرار السلمي، بتزايدٍ وتسارعٍ متناسبَين مع تسارع أفول عصر الوقود الأحفوري.
*محامٍ في الولايات المتحدة الأميركية، سابقاً
مُقيم في لبنان
نبض