طهران وتصدير الأزمة: بغداد بوابة الهروب من الغليان
د. عاصم عبد الرحمن
لم تعد الاحتجاجات في إيران مجرّد هبّات معيشية أو حركات مطلبية متقطعة، بل تحولت إلى مشهد يومي يعكس عمق المأزق البنيوي الذي يعيشه نظام ولاية الفقيه. فالغضب الذي بدأ من صفوف المعلمين والمتقاعدين والعمال امتدّ ليشمل فئات واسعة من المجتمع، ترفع اليوم شعارات تتجاوز لقمة العيش إلى المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة.
في طهران وأصفهان وكرمنشاه وخوزستان، لم تهدأ الساحات منذ أشهر. المتقاعدون ينددون بسياسات التجويع ونهب صناديقهم، والمعلمون يطالبون بتحسين ظروفهم والإفراج عن زملائهم المعتقلين، كما حدث مع المعلم المتقاعد جهانغير رستمي الذي أثار اعتقاله موجة تضامن واسعة. لم تعد هذه الاحتجاجات تقتصر على الاقتصاد، بل تحولت إلى مواجهة سياسية مفتوحة مع رأس النظام.

أمام هذا المد الشعبي، يعيد النظام الإيراني استخدام استراتيجيته التقليدية ذات المسارين: القمع في الداخل، وتصدير الأزمة إلى الخارج. في الداخل، تواصل أجهزة الأمن القبضة الحديدية، اعتقالات وضرباً ومحاكمات صورية، لكنها لم تعد تزرع سوى مزيد من الغضب واليأس. أما في الخارج، فيبحث النظام عن متنفسٍ في إثارة التوترات الإقليمية، مستثمراً الفوضى سلاحٍاً للهروب من أزماته الداخلية.
ومن بين كل الساحات التي يتدخل فيها، يبرز العراق بصفته الساحة الأهمّ والأقرب إلى عقل النظام الإيراني ومصالحه. فالعراق ليس امتداداً جغرافياً واستراتيجياً لطهران فحسب، بل هو أيضاً رئة اقتصادية وشريان حيوي يمدّ الاقتصاد الإيراني المتهاوي بفرص التنفس عبر التجارة غير النفطية التي تُقدّر بمليارات الدولارات سنوياً.
وقبيل الانتخابات البرلمانية العراقية، تكثفت التحركات الإيرانية بشكل واضح. إذ ترى طهران في هذه الانتخابات مفترق طرق مصيرياً، وتسعى بكل أدواتها السياسية والمالية والعسكرية الى ضمان وصول حلفائها إلى السلطة. الميليشيات الموالية لإيران تلعب هنا الدور المحوري؛ فهي لا تمثل ذراعاً عسكرية للحرس الثوري فحسب، بل واجهات سياسية داخل العملية الانتخابية، تسعى إلى التحكم بمفاصل القرار العراقي ومنع تشكّل دولة عراقية قوية ومستقلة.
إنّ مشروع الملالي في العراق لا يهدف إلى تعزيز النفوذ وحسب، بل إلى إبقاء البلد في حالة من السيولة والفوضى التي تتيح لطهران استخدامه ورقة مساومة مع الغرب، وصمّام أمان ضد غضب الداخل الإيراني. فكلما اهتزت شرعية النظام في طهران، وجد في بغداد مخرجاً موقتاً لأزماته.
لكنّ الحقيقة الأعمق أن هذا الهروب المتكرر لم يعد يُقنع أحداً. فاستمرار الاحتجاجات داخل إيران واتساعها جغرافياً واجتماعياً، يعكسان تصدّع شرعية النظام من أساسها. وإصرار طهران على تصدير أزماتها إلى الخارج لم يعد علامة قوة، بل اعتراف ضمني بالعجز والاختناق.
اليوم، يدرك الإيرانيون أن خلاصهم لن يأتي من مغامرات النظام في العراق أو لبنان أو اليمن، بل من داخل شوارعهم المليئة بالغضب. ومهما حاول الملالي بناء المتاريس في بغداد أو دمشق، فإن الشرارة التي اشتعلت في طهران لن تخمد، لأنها ببساطة أكبر من أن تُصدَّر، وأعمق من أن تُخمد بالقمع أو الشعارات.
نبض