شُموعُ تشرين
ريمي الحويّك
في خريفِ لُبنانَ، حين تترجّلُ الشّمسُ عن عرشِها الذّهبيِّ وتلوذُ بكتِفِ الغيمِ، يعبَقُ النّسيمُ برائحةِ التّرابِ المبلولِ كرسولِ مطرٍ، وتتناثرُ نِعَمُ اللهِ والطّبيعة على سطوحنِا وسهولِنا ويكتسي وطنُنا ثوباً من بركةٍ وفيضٍ. وفي خريفِ لُبنانَ، يهُبُّ النّسيمُ عليَّ كأنفاسِ الأجدادِ وتتشابكُ في قلبي ثلاثةُ أعيادٍ كما تتشابكُ أغصانُ الأرزِ في حضنِ الرّيح. علمٌ يرفرفُ على شُرُفاتِ الوطن فيرتجفُ في دمي، صوتٌ سماويٌّ يطُلُّ من إذاعةِ الصّباحِ فيغسِلُ وجهي بالضّياءِ، ونورُ وجهٍ يُشعلُ دفءَ البيتِ فيُعيدُ ترتيبَ الفصولِ المُبعثرةِ داخلي. عيدُ استقلالِ لُبنان، عيدُ فيروز، وعيدُ أُمّي، ثُلاثيّةٌ تشبهُ وتراً واحداً تعزفُهُ الحياةُ على قيثارةِ قلبي في المحطّةِ الأخيرةِ من كلِّ تشرينٍ.
اليومَ، يَخُطُّ لُبنانُ عامَهُ الثّانِيَ وَالثّمانينَ في صفحاتِ الاستقلال، ثمانيةُ عقودٍ وأكثرَ منَ الحكاياتِ: بين مجدٍ وجُرحٍ، بين بناءٍ وانكسارٍ، بين أجيالٍ ترحلُ وأخرى تزرعُ زيتونَها في التّربةِ وتنتظرُ الفجرَ، ما زال هذا الوطنُ الصّغيرُ واقفاً ككهلٍ يُفتّشُ عن ملامحِهِ في مرآة الزّمن، يختزِنُ في ذاكرتِهِ حفيفَ الأرزِ ووُعودَ الأجيالِ، ما زال صندوقاً مفتوحاً على الدّمعِ والنشيدِ، على الطّوفانِ والأفُقِ، على قواربِ الصّيادينَ وصدورِ الشّهداءِ، على أجملِ حكايةٍ قرأَها وإن لم تُكتَب بعدُ.

ذاك الوطنُ الّذي تكسّرتِ الأمواجُ العثمانيّةُ على صخورهِ، وحاولت فرنسا صبغَه بلونِها فأبَى إلّا أن يظلَّ كأرزهِ أخضرَ، لونٌ لا يموتُ، لأنّ جذوعَهُ تَنْهَلُ من دمِ الشّهداءِ ومن عيونِ الحالمينَ بالعودة. هذا الأخضرُ ليس مجرّدَ نباتٍ، بل هو وشاحُ رجاءٍ على كتِفِ أرملةٍ، وترنيمةُ إيمانٍ في حنجرةِ الزّمنِ، وأفُقٌ ممتدٌّ في جذورِ الذّاكرة.
في قلعة راشيّا، حيثُ اعتُقِلَ بشارة الخوري ورياض الصُّلح ورفاقُهُما، لم تُسجَنِ الإرادةُ، إذ كانت تهدِرُ خلف الجدرانِ حناجرُ النّاسِ كموجٍ عاتٍ، ظلّت تهدِرُ حتّى ذابَ القفلُ في يدِ الحُرّيّة. هناك، وُلدَت لحظةُ الحقيقة، لُبنان لا يعيشُ إلّا حُرّاً، ولا يُزهِرُ إلّا إذا سقتْهُ الشّمسُ بلا ظلّ مُستعمِر. راشيّا لم تكن حجارةً وأسواراً فحسْبُ، بل كانت قلباً نابضاً يُجسّدُ للعالمِ حكمةَ الشّابي حين قال: "إذا الشّعبُ يوماً أرادَ الحياةَ...فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ".
في اليومِ نفسِهِ الّذي ارتجفت فيهِ أغصانُ الأرزِ في نسيمِ الحُرّيّة، أوقَدَت فيروزُ شمعةَ الميلادِ الأولى لِلُبنان المستقِلّ، ثمّ أطفأتها وهي تطوي السّنةَ الثّامنةَ من عُمرِها، والرّقمُ ثمانيةٌ في سِفرِ التّكوين يرمزُ لبدايةٍ جديدةٍ بعد الطّوفان، فكما نجا نوحٌ وثمانيةٌ معهُ ليُعيدوا إعمارَ الأرضِ، جاءت فيروزُ لتُعمِرَّ الرّوحَ الّلبنانيّةَ بصوتِها الّذي لا يموتُ، بل صار وطناً آخرَ في الرّوح.
حين كانت فيروز تُخمِدُ شمعتَها الثّامنةَ على مائدةِ الطّفولة، كُنّا نفُكُّ أغلالَ الانتدابِ الفرنسيّ، ومع جارةِ القمرِ، "طلعنا على الضّوء، طلعنا على الرّيح، طلعنا على الشّمس، طلعنا عالحُرّيّة".
واليومَ، تُتِمُّ سيّدتَنا عقدَها الثّامن، وهي لنا "سِجِلٌّ وطنيٌّ "، صوتُها لنا ليس فقط غناء، بل قهوةٌ وخبزٌ وزيتونٌ، هو بيتٌ لنا ووطنٌ على جدرانِ قلوبنا، وهي لنا "قمر الحلوين، زهر بتشرين وذهبنا الغالي".
وسَطَ أعيادِ الوطنِ وفيروز، يَحُطُّ اليومَ عيدٌ آخرَ في قلبي، يلتصِقُ في روحي كما تسكُنُ القرنيّةُ في رِحابِ العين، عيدُ أمّي. هي استقلالي الأوّلُ مُذ غادرتُ موانئَ الرّحِمِ إلى شاطئِ صدرِها. هي حُرّيتي الأجملُ حين كانتِ الدُّنيا أبواباً موصدة. هي وطني الّذي لا تُبلِغُهُ رياحٌ ولا تنكسر أسوارُه. هي نشيدي الّذي لا يُعزَفُ إلّا على وترِ نبْضِها. هي شجرةُ أرزٍ في بيتٍ صغيرٍ، تُظلّلُني كلّما صارتِ البلادُ نَهْباً للغُبار. هي رايتي الأولى قبل أن أعرِفَ معنى العَلَم. هي الأرضُ الّتي لا تُقاسُ بالكيلومتراتِ، بل بنبضاتِ القلبِ تُقاس.
أُمّي مدرسةُ شوقي ويدُها يدُ نابليون.
أُمّي ملاكُ سعيد عقل وخبزُ درويش.
أُمّي وسادةُ شكسبير وأثمنُ ما امتلَكَ كنفاني.
أُمّي نوبل ماري كوري وقلمُ مي زيادة.
أُمّي قصيدةُ نزار وصوتُ فيروز.
أُمّي وشاحُ العذراءِ فوق الجلجلة.
في أواخِرَ تشرين، حين يشيخُ الهواءُ وتغفو الأمطارُ على غيومِها، أعودُ إلى نفسي فأجدُها مُنسابةً بين أرزةٍ سامِقةٍ وصوتٍ سماويٍّ وحِضنٍ حانٍ، فأكتبُ، أكتُبُ كي لا أنسى أنَّ الوطنَ ليس حدوداً على الخريطةِ فحسْبُ، ولا هو يومٌ عابرٌ على التّقويمِ الزّمنيِّ فقط، بل الوطنُ لي ثالوثُ حياةٍ، هو انتماءٌ، هويّةٌ وأمان.
أعشقُ عيدَ الاستقلالِ ولكنّي أرفضُ أن أستقلَّ عن لُبنان، أرفضُ أن أستقلَّ عن صوتِ فيروز، وأرفضُ أن أستقلَّ عن وجهِ أُمّي. فالاستقلالُ عندي ليس انفصالاً، بل التِئامٌ، ليس خروجاً من الأرض، بل دخولٌ أعمق في جذورها. وكما أنّ للأرضِ أربعةَ عناصرَ تحفظُ توازنَها، الماءُ، النّارُ، الهواءُ والتّرابُ؛ لي أنا أيضاً أربعةُ أركانٍ لوجودي، أُمّي، ماءُ حياتي الّذي يُطهّرُني كلَّ صباح. لُبنان، أرضي الّتي تُثَبِّتُ قدميَّ حين تجرِفُني المنافي. فيروز، هوائي الّذي أتنشّقُهُ مع أوّلِ النّشيدِ فَتَخْضرُّ روحي. وربّي، ناري ونوري ومُنير دربي.
وفي اللّحظاتِ الأخيرةِ من ليلِ الثّاني والعشرينَ من تشرين الثّاني،
أستنِدُ إلى قلبِ أُمّي،
أتسلّقُ صمتَ الأرزِ،
أستكينُ لِلنَّومِ على همْسِ فيروز،
وأرفعُ باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدُس، صلاتي نحوَ السّماء:
"يا ربّ، اجعل ثالوثي الأرضيّ، ظِلّاً لثالوثك السّمويّ".
نبض