حرب الذئاب والعقارب: سباق على إرث خامنئي قبل السقوط
د. عاصم عبد الرحمن
بينما يواجه النظام الإيراني أسوأ أزماته منذ أربعة عقود، تتصاعد حدة الصراع بين أجنحة السلطة في طهران، كاشفة عن تصدعات عميقة تهدد هيكل "الجمهورية الإسلامية" من الداخل.
الخطابات المتشددة التي ملأت الساحات خلال إحياء ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في 4 تشرين الثاني الحالي لم تكن مظاهر قوة، بل مؤشرات على "حرب الذئاب" التي تشتعل خلف الكواليس، تغذيها حالة الغموض المحيطة بصحة المرشد الأعلى علي خامنئي واقتراب لحظة ما بعده.
الشيطان الأكبر... من جديد
يحاول رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، في خطاب تعبوي ألقاه في طهران، إحياء العداء للولايات المتحدة كعنصر جامع للنظام. وزعم أن "عداء أميركا لنا لم يبدأ من احتلال السفارة"، واصفاً شعار "الموت لأميركا" بأنه "موت للهيمنة وليس للشعوب".
لكن هذا الخطاب المتطرف يعكس أكثر ما يخفيه: محاولة يائسة لتوحيد صفوف النظام عبر افتعال عدو خارجي، وتغطية الفشل المزمن في إدارة الاقتصاد وانهيار ثقة المواطنين بالمؤسسات.

برلمان منقسم وتهديدات انتحارية
لم يبتعد البرلمان عن هذا النهج؛ فخلال إحدى جلساته، حذّر علي نيكزاد، الذي ترأس الجلسة، من أي "تصريح يثير الفرقة"، معتبراً أنه "خدمة للأعداء".
لكن التحذير نفسه كشف عمق الشرخ داخل المؤسسة التشريعية. فالدعوات المتكررة إلى "الوحدة المقدسة" ليست إلا دليلاً على غيابها، بينما يعكس دفاع نيكزاد عن احتلال السفارة عام 1979 تمسكاً بخطاب تجاوزته الأجيال الجديدة التي تبحث عن انفتاح لا مواجهة.
أخطر مظاهر هذا الانقسام تمثل في مناورة قادها 63 نائباً، طالبوا الرئيس مسعود بزشكيان بوضع خطة لـ"إغلاق مضيق هرمز".
الخطوة التي لطالما استخدمها المتشددون كورقة ضغط خارجية تحوّلت اليوم إلى سلاح في حرب النفوذ الداخلية.
وسارعت صحيفة "شرق" الحكومية للتحذير من أن هذه المغامرة ستكون بمثابة انتحار اقتصادي، لأنها ستخنق الاقتصاد الإيراني قبل أن تضر بأي طرف آخر، برفع كلفة الشحن والتأمين وتأخير وصول السلع الأساسية.
بهذه الخطوة، يتضح أن بعض أقطاب البرلمان يسعون إلى توريط حكومة بزشكيان في مواجهة كارثية لتثبيت موقعهم في المعادلة السياسية المقبلة، ولو على حساب الأمن القومي. إنها مقامرة خطيرة في بلد يقف اقتصاده على حافة الانهيار.
سباق مبكر على إرث المرشد
وراء هذه المظاهر السياسية يكمن جوهر الأزمة: سباق مبكر على خلافة خامنئي. فالتقارير المتزايدة عن تدهور صحته أطلقت سباقاً محموماً داخل دوائر النظام. كل جناح يسعى لإثبات أنه الأكثر تشددًا وإخلاصاً لـ"مبادئ الثورة"، على أمل أن يضمن موقعاً في مرحلة ما بعد المرشد.
قاليباف، بصفته رئيس البرلمان وأحد أبرز الطامحين للرئاسة، يوظف الخطاب الثوري المتشدد كعملة سياسية في هذا السباق.
أما النواب الذين يلوّحون بإغلاق المضيق أو مواجهة الغرب، فهم يدركون أن المزايدة الأيديولوجية باتت الطريق الأسرع لكسب النفوذ، حتى لو كانت كلفتها زعزعة استقرار الدولة.
أدوات فقدت فعاليتها
لكن المفارقة أن الأدوات الأيديولوجية التي يستحضرها النظام اليوم فقدت بريقها وقدرتها على الحشد.
شعار "الموت لأميركا" لم يعد يوحّد الإيرانيين، بل يكشف انفصال السلطة عن الشارع.
ومعادلة "الخطر الخارجي يوحّد الداخل" لم تعد تعمل في ظل جيل جديد يطالب بالحرية، والانفتاح، وتحسين المعيشة لا الشعارات.
إن ما كان يُعرف بـ"عقل الثورة" يتحول اليوم إلى نظام مأزوم يلتهم نفسه من الداخل.
فالصراع بين المتشددين والإصلاحيين لم يعد حول السياسات، بل حول من يملك مفاتيح السلطة بعد خامنئي، وسط نظام ينهكه الحصار الدولي والاحتقان الشعبي
نظام يلتهم أبناءه
في النهاية، تبدو طهران عالقة في حلقة مفرغة من التطرف والخوف والارتباك.
الخطابات المتشنجة لم تعد تُخيف الخصوم، بل تكشف هشاشة داخلية متنامية، فيما يدفع غياب القيادة الوشيك الجميع إلى تصفية حساباتهم مبكراً.
إيران اليوم أشبه بعشّ عقارب ينهش بعضه بعضاً.
صراعٌ على السلطة يتغذى من الخوف من الغد، وسباقٌ على إرثٍ قد لا يجد من يرثه.
وما لم تجد الجمهورية الإسلامية طريقاً إلى عقلانية جديدة، فستكتب نهايتها كما تبدأ الحروب الأهلية عادة: بخطابات الحقد... لا برصاص الأعداء.
نبض