غبار… محمد العبيدي والكتابة على الطين المتصدّع

منبر 20-11-2025 | 10:57

غبار… محمد العبيدي والكتابة على الطين المتصدّع

نعلم أن الفن لا يمكنه مواجهة الدبابة، لكنه يمكن أن يسأل...
غبار… محمد العبيدي والكتابة على الطين المتصدّع
من اعمال محمد العبيدي
Smaller Bigger

ريمون أبو حيدر

 

 

نعلم أن الفن لا يمكنه مواجهة الدبابة، لكنه يمكن أن يسأل...
في هذا الإطار، يبدأ معرض غبار Dust للفنان محمد العبيدي في صالة مبنى الإدارة داخل معرض رشيد كرامي الدولي، حيث يعبر الزائر إلى فضاء يتداخل فيه الطين مع الذاكرة، والحضارة مع الانكسار. كل شقّ في التربة، وكل طرف ينهض من الأرض، وكل تمثال يتكرر بملامح متشابهة، لا يظهر كعنصر بصري فحسب، بل كشاهد حي على ما تبقى من حضارة، وعلى ما فُقِد منها عبر الزمن.
مدخل المعرض: عبور المعبد المندثر
يبدأ الزائر رحلته عبر عتبة تشبه باب معبد مندثر، بحيث تتقاطع الذاكرة بالتاريخ واللغة. في الفضاء الأول تنهض كتل طينية متشققة محفورة بالخط المسماري، كأنها شظايا مكتبة سومرية خرجت من رماد العصور. هذه الكتل ليست مجرد منحوتات، بل جمر معرفي وبقايا حضارة تصرّ على المقاومة رغم الانكسار ووطأة الزمن.
الطين ككائن حي وصوت التاريخ
الطين هنا ليس خامة جامدة؛ إنه جسد ينطق بالانكسار والمعرفة المفقودة. تتجلّى جوقة صامتة من النصوص المسمارية والكتابات الضائعة لتذكّر الزائر بما محاه الزمن، وأبقته الذاكرة ندبة حيّة.

 

 

عمود الطين… سقوط اللغة من نفسها
يقدّم العبيدي عموداً طينياً متصدّعاً كآخر محاولة للحرف أن يتذكّر ذاته. كل شقّ فيه تفكيك للمعنى، وكل كسرة تمثل انقطاعاً في الذاكرة، حتى تصبح الكتابة أثراً للكتابة وظلًّا لنص لم تعد ممكنة استعادته.
النموذج البشري والصورة المعيارية
النموذج البشري الصغير في أسفل العمل ليس مجرد تفصيل شكلي، بل نقطة قياس تعيد تنظيم العلاقة بين الإنسان والنص، بين القارئ والماضي. الإنسان يقف أمام مجلد كوني مفتوح وممزق، متآكل، ومخترق، لكنه لايزال يحمل إرادة البقاء.
جمالية التشظّي
يعتمد العبيدي على لغة مادية واضحة: الطين، الشقوق، التراكمات، والسطوح المتآكلة ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل بنية مفهومية. الشكل هنا تاريخ متشقق، وكل كسرة علامة على الانكسار الحضاري، والتكرار الصامت يعيد إنتاج الذاكرة.
تماثيل التكرار وأعمدة الإنسان
التماثيل المتكررة تظهر جوقة صامتة خرجت من قلب المتحف العراقي، ليست كأثر من الماضي فحسب، بل كطقس جماعي انقطع عن الزمن. التشويه المقصود في وجوهها يخلق لغة بصرية مزدوجة الوظيفة: تفكيك الذاكرة الأثرية واللغة الجمالية معاً. أعمدة الإنسان تمثل أطرافاً تنهض من الطين كبقايا آخر إنسان، تشير إلى أن الجسد، قبل أن يُمحى، يترك أثراً عمودياً يقول: "كنت هنا". كل تمثال يعيد تمثيل اللحظة التي سقط فيها الإنسان من تاريخه، بينما تبقى أقدامه تبحث عن توازن فوق أرض غير مستجيبة.
تمثال نابو: شاهد المعرفة والخراب
اختار الفنان نسخة كبيرة من تمثال نابو، مشابهة لتلك في المتحف العراقي، وجعلها محور المعرض. التمثال ليس مجرد أثر تاريخي، بل شاهد على الخراب وتدوينه وعلى الحطام والنهب، يحدّق بصمت في ما حلّ بالإنسان والتاريخ معاً. حجمه يمنحه حضوراً طاغياً فوق الفوضى الرمزية للطين المتصدع، ليصبح صوت الحضارة الضائعة، مذكّراً الزائر بأن آثار المعرفة لاتزال تتكلم، وإن كان بصوت مشوّه.
تجربة الحطام والجمهور
بجانب نابو، وُضعت بقايا الحطام وقطع الأجرار الطينية لتصبح جزءاً من تجربة حسّية وتفاعلية. لمس القطع أو التجول بينها يمنح الزائر إحساساً بالخراب والنهب، ويحوّل الفضاء الفني إلى مكان حيّ تتواصل فيه المعرفة والخراب والجسد الرمزي.
استعادة بصرية وفراغ باشلاريّ
الفراغ المحيط بالأطراف يذكّر بتصورات غاستون باشلار عن المكان: الفراغ يتحوّل إلى شاعرية مكانية مولّدة للخيال، حيث الطين المتشقق والأطراف العمودية والأجزاء المنفصلة لا تعيد الماضي، بل تعيد تشكيله وفق صدمة الحاضر.
بين الغزو والنهب… ولادة جمالية جديدة للصدمة
الغبار ليس مجرد طبقة تتراكم، بل حالة الأشياء حين تفقد شروط حضورها. الانهيار يتحوّل إلى كتابة، والمحو إلى لغة. التكرار ليس أسلوباً بصرياً فحسب، بل طقس معرفي يعيد إنتاج صدمة الانكسار، ويجعل المعرض ينطق بلسان الحضارة الممزقة.
قراءة فلسفية وأنثروبولوجية
يتقاطع المعرض مع أفكار ميشال فوكو، حيث العلاقة بين المعرفة والسلطة تصبح محور التجربة، في ضوء التفكيك الذي أحدثه الغزو الأميركي عام 2003. الطين المتصدع ليس مجرد أثر بصري، بل ممارسة ثقافية، وكل شق وكسرة هو أثر لبنية اجتماعية وحضارية تعكس علاقة الإنسان بتاريخ مجتمعه وطرائق حفظه للذاكرة.
العمارة والمكان: طرابلس وأوسكار نيمايير
ربط المعرض بمكان معماري مثل طرابلس وفضاءات أوسكار نيمايير يضاعف التجربة البصرية والفلسفية: الانحناءات والمعمار المفتوح تكرّر حركة الشقوق في الطين، وتسمح للزائر بالتجول بين الذاكرة والانكسار، بين الماضي والحاضر. التباين بين حجم العمود وحجم الإنسان يعيد إنتاج صدمة الانكسار: اللغة صامدة، بينما الإنسان صغير أمام قوة النص والتاريخ.
الخاتمة: الصدمة والجوقة الصامتة
يحوّل محمد العبيدي الطين المتآكل والغبار إلى منصة فلسفية بصرية، حيث يتحوّل الانهيار إلى كتابة والمحو إلى لغة، ويصبح التكرار أداة لتضخيم الصدمة. "غبار" تجربة نقدية متكاملة تدعو إلى الاستماع لما تقوله الأشياء حين تنهار الحضارات، وإلى الجوقة الصامتة التي تعيد إنتاج حضور الغياب. المعرض مستمر حتى 24 تشرين الثاني.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً. 
مجتمع 11/21/2025 8:31:00 AM
تركيا وسواحل سوريا ولبنان وفلسطين ستكون من بين المناطق المستهدفة بالأمطار بعد إيطاليا