حين يصبح الحبر وطنًا للمشاعر الهاربة
فرانسيسكا موسى
الحرف هو أنفاسُ من اختنق، وصوتُ من صمتَ طويلًا حتى تآكلت في داخله الكلمات. الإنسان لا يكتب ليعبّر، بل ليحيا. يكتب كي لا يموت بين ضجيجٍ لا يسمع صوته، وبين عالمٍ لا يفهم صمته. فالكتابة ليست فعلًا مزخرفًا ، بل صرخة نجاة، تخرج من قلبٍ أنهكه الكتمان ومن روحٍ تبحث عن مأوى بين السطور.
ليس ما يُكتب حروفًا تُنسَج على الورق، بل جراحُ روحٍ تنزفُ في صمتٍ نبيل، كل كلمةٍ فيها نداءُ ألمٍ مبحوح، وكل فاصلةٍ دمعةٌ لم تجد خدًّا لتسكنه. الكاتب غارقٌ في بحر كلماتٍ لا نهاية لجرحها، يطفو حينًا على ذاكرةٍ، ويغرق حينًا في وجعٍ لا يُقال، يكتب لا لأنه قادر، بل لأنه لو لم يكتب لاختنق.
جلستُ بين أفكاري، أستمع إلى صمتٍ يضجّ في داخلي، ثم سألتُ تلك الفتاة الصغيرة التي تختبئ بين نبضاتي: لِمَ تكتبين يا أنا القديمة؟
قالت لي بصوتٍ يشبه الهمس، كأنها تخاف أن توقظ شيئًا نائمًا في داخلي:
يسألونني دائمًا: لماذا أنتِ هادئة؟ ولا يعلمون أن هذا الهدوء ليس طمأنينة، بل انهيارٌ مهذّب أتعلم كيف أُخفيه. كانت جالسة أمامي، وبين يديها دفترٌ مهترئ الأطراف، كأنّه عاش أكثر منها.
تابعت وهي تقلب صفحاته ببطء: أنا لا أعيش بين الناس كثيرًا، بل في أحضان قلمي وأوراقي. هناك أقول ما لا يُقال، أتنفّس بين السطور، أكتب وأبتلع ما أكتب. في رأسي أفكار تصرخ، وفي قلبي أحاسيس لا تُفهم. أما جسدي... فيسكن بين كتبٍ قديمةٍ تشبهني، باهتة الملامح، لكنها لا تزال تعبق بعطر الذاكرة. سكتت قليلًا، ثم ابتسمت ابتسامةً حزينة، وقالت بصوتٍ خافتٍ كأن الحروف توجعها: أصبحت أحب الصمت، لأنني لا أعلم... هل ماتت كلماتي، أم متُّ أنا؟ ذلك الصمت ليس راحةً كما يظنون، بل قبرٌ صغير أدفن فيه ما تبقّى مني، كلما خانني الحبر أو ضاقت بي اللغة. ثم نظرت إليّ بعينين غارقتين في البُعد، وقالت:
الكتابة لا تُنقذني، لكنها تمنح انهياري شكلًا جميلًا. عندها أدركتُ أن الذي يكتب ليس قلمي، بل شوقي العالق بيني وبين الحياة، وعطشي إلى الإحساس، وخوفي، وأوجاعي التي تفيض حبرًا كلما صمتُّ.

الكتابة ليست مهنة، ولا عادة، ولا هواية. إنها حياةٌ أخرى يولد فيها الإنسان من رماده، يخلق نفسه من الحروف ويستعيدها من الألم. فمن يكتب لا يبحث عن مجدٍ ولا عن تصفيق، بل عن النجاة من نفسه، لأن الذي يعيش بالكلمة لا يخاف الموت؛ فالموت الحقيقي هو أن يُطفأ الحبر في داخله، وأن تُغلق الروح كتابها قبل أن تُكمل الحكاية.
نبض