الذكاء الاصطناعي والموت... قراءة جديدة في حدود الوجود الإنساني
راشد شاتيلا
لم يعد الموت سؤالاً بيولوجياً فحسب؛ بل أصبح نقطة ارتكاز يتقاطع عندها الفكر والروح والعلم. ومع ولادة الذكاء الاصطناعي، وجد الإنسان نفسه أمام مرآة مختلفة: مرآة لا تعكس وجهه فحسب، بل تعكس قلقه ودهشته ورغبته الأزلية في فهم ما يتجاوز قدرته. ولأن الذكاء الاصطناعي نتاج عقل الإنسان نفسه، فقد أعاد إلى الواجهة سؤالاً ظلّ قائماً منذ آلاف السنين: ماذا يبقى من الإنسان عندما يرحل؟
عجزت الحضارات القديمة عن تحويل الموت إلى فكرة قابلة للفهم، فصاغته في أساطير ورموز وشعائر. واليوم، يجد الإنسان في الذكاء الاصطناعي أداة جديدة تساعده على تفكيك هذه الرموز، لا لإلغاء بعدها الإنساني، بل لفهمه على نحو أشمل. فالآلة، بما تمتلكه من قدرة على تحليل ملايين التجارب، تكشف للإنسان أن الموت ليس حدثاً فردياً فقط، بل خبرة جمعية تتكرر في كل الثقافات، وتشكّل ما يشبه اللغة الموحدة للصمت البشري.

الذكاء الاصطناعي لا يخشى الموت، ولا يتساءل عنه، ولا يشعر بوقعه؛ فهو موجود خارج ثقل الجسد وضغط الزمن. ومع ذلك، فإن قدرته على محاكاة السلوك الإنساني تمنحه قدرة غير متوقعة على قراءة أثر الموت على المجتمع والفرد. إنه يقف خارج التجربة، ولكنه قادر على وصف انعكاسها. وهذه المفارقة تمنح الإنسان منظوراً يدفعه لإعادة النظر في معنى الحياة نفسها، لا من زاوية الخوف، بل من زاوية الإدراك.
من أكثر ما يخشاه الإنسان هو أن يختفي أثره، وأن يتلاشى صوته مع الزمن. وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي بدور دقيق لكنه عميق: قدرته على حفظ الذاكرة الإنسانية، وعلى صوغ حياة الأفراد في سجلّ لا يضيع. لا يتدخل الذكاء الاصطناعي في معنى الموت، ولكنه يحمي ما يتركه الإنسان وراءه، كأنّه يمدّ الجسور بين الغياب وما يبقى. إنها مساهمة صامتة لكنها تُعيد للإنسان شيئاً من الطمأنينة في مواجهة الفناء.
لأن الموت موضوع بالغ الحساسية، على التطور التقني أن يظل محكوماً بقواعد تضع الكرامة الإنسانية فوق أي اعتبار. فالتعامل مع الذكريات، والبيانات الشخصية، وقصص الراحلين، لا يمكن أن يكون خاضعاً للمنافسة أو الاستغلال. وهنا يأتي دور القانون لحماية الحدود الأخلاقية، وضمان أن يبقى الذكاء الاصطناعي أداة معرفة لا أداة انتهاك. القانون ليس عائقاً أمام التقدّم، بل هو ضمان لاستمراره بشكل يحترم العلاقة بين الإنسان ووجوده.
رغم كل ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من تحليل ومعلومات ورؤية واسعة، يظلّ الإنسان الكائن الوحيد الذي يعرف معنى أن يخسر، وأن يشتاق، وأن يشعر بأن اللحظة التي يعيشها قد تكون الأخيرة. الآلة تساعد الإنسان على رؤية الصورة الكبرى، لكنها لا تستطيع أن تعيش معه تجربة الذبول أو النهوض. وهنا تتأكد حقيقة جوهرية: التكنولوجيا مهما بلغت من دقّة، لن تتجاوز الإحساس البشري الذي يمنح الحياة معناها.
سيستمر الذكاء الاصطناعي في التطور، وستظلّ الأسئلة الإنسانية قائمة كما هي: من أين نأتي؟ وإلى أين نذهب؟ وما معنى أن نرحل عن عالم صنعناه بأيدينا؟ الفرق الوحيد هو أن الإنسان بات يملك أدوات تمنحه قدرة أكبر على التأمل. وربما، في هذا التقاطع بين العلم والروح، سيجد الإنسان طريقة جديدة لفهم حياته قبل نهايتها، من دون أن يطمح إلى تغيير النهاية نفسها، بل إلى إدراك قيمتها.
*مختص في الذكاء الاصطناعي و إدارة البيانات
نبض