لا تعافيَ اقتصادياً في لبنان من دون استعادة الثقة والدولة
الدكتور سمير حسن عاكوم
يتكاثر الكلام في لبنان عن الخطط الاقتصادية كما تتكاثر الأزمات، لكن شيئًا لا يتغيّر. فالمشكلة لم تعد نقصاً في السيولة ولا في الموارد بل فقدان شامل للثقة بين المواطن ودولته، المودع ومصرفه، المستثمر والقانون والمجتمع والعدالة. الثقة هي رأس المال الحقيقي لأي دولة حديثة وهي اليوم العملة المفقودة في السوق اللبنانية.
الثقة ليست شعارًا معنويًا بل أساس النهوض الاقتصادي والأساس الذي تقوم عليه كل حركة اقتصادية. المستثمر لا يغامر في بلد لا يثق بقضائه والمودع لا يسلّم مدخراته لمصرف لا يحترم القانون والمواطن لا ينتج في دولة لا تحميه.
فلبنان الذي كان يُعرف يومًا بأنه "سويسرا الشرق" انهار لأن نظامه السياسي والمصرفي خان هذه الثقة. انهارت الليرة، تبخّرت الودائع، تفككت المؤسسات والنتيجة أن كل إصلاح يُطرح اليوم يبدو بلا روح لأن البيئة التي تحتضنه باتت خالية من المصداقية.

فاسترداد أموال المودعين هو امتحان أخلاقي قبل أن يكون ماليًا. وضع الناس مدخراتهم في المصارف تحت سلطة قانون وعدالة يفترض أن تحميهم. لكن انهيار المنظومة حول المودع إلى ضحية دولة تواطأت مع المصارف والمصرف المركزي في تحميله الكلفة الأكبر للانهيار! من دون خطة شفافة وعادلة تعيد الحقوق لأصحابها لن تُبنى أي ثقة. فلا مصرف سيُصدّق ولا استثمار سيعود ولا اقتصاد سيُبعث من رماده ما دام منطق الإفلات من العقاب يحكم العلاقات المالية.
الثقة بالاقتصاد لا تنفصل عن الثقة بالقضاء. حين تصبح العدالة انتقائية تُقتل الثقة في القانون وفي الدولة. القضاء المستقل هو الضمانة الوحيدة لردع الفساد وحماية المال العام والخاص، لكنه يخضع في لبنان للسلطة السياسية والطائفية التي تفككه وتشلّ فاعليته. سيبقى لبنان من دون قضاء حرّ ونزيه في دائرة الشك، فالمستثمر يريد قاضيًا لا تابعًا سياسيًا والمواطن يريد عدالة لا مساومة. العدالة ليست ترفًا في بلد مأزوم بل شرطٌ لبقاء الدولة نفسها.
لا يزدهر الاقتصاد في ظلّ تداخل السلطات، غابت الحدود في لبنان بين السياسي والمالي فصارت المصارف أذرعًا للمنظومة والبرلمان شريكًا في الفساد والحكومة رهينة التوازنات الطائفية. استعادة الثقة تقتضي إعادة الاعتبار لمبدأ الفصل بين السلطات، غياب التوازن بين التشريع والتنفيذ والقضاء حوّل الدولة إلى سوق نفوذ. ولن يعود النظام الاقتصادي متوازنًا ما لم يُعَد إحياء روح الدستور بمبادئه العشرة التي تضمن الحرية، المساواة وسيادة القانون.
فكيف يمكن لاقتصاد أن يتعافى في ظل دولة ميليشيوية عميقة تمسك بمفاصل القرار السياسي والأمني والاقتصادي؟ هذه البنية الموازية تُفرغ الدولة من سيادتها وتبقيها رهينة الخوف والتبعية. لا يمكن لرأسمال خارجي أن يدخل بلدًا لا يملك قرار الحرب والسلم ولا لمستثمر أن يغامر في ظلّ ازدواجية السلطة بين الشرعية والسلاح. الثقة لا تنشأ في الفوضى ولا تزدهر في ظل الخوف. فمن دون دولة تحتكر القوة لا اقتصاد ولا تنمية ولا استثمار.
من أهم شروط استعادة الثقة تحديث الإدارة العامة التي تحوّلت إلى بؤرة فساد، فالإدارة الحديثة لا تُبنى على الولاءات بل على الكفاءة والرقابة والمحاسبة بعد التنظيم ورفع التعقيدات. التحول الرقمي، الشفافية في التوظيف ونشر البيانات المالية والمناقصات علنًا هي أدوات لاستعادة ثقة المواطن بالمؤسسة. حين يلمس المواطن أن معاملته تسير بعدالة وسرعة ووضوح يشعر أن الدولة عادت إلى العمل. وحين يرى المستثمر إدارة شفافة لا خاضعة تبدأ الثقة بالتحوّل إلى إنتاج.
استعادة النظام الدستوري الديمقراطي مدخل الإنقاذ، فكل إصلاح اقتصادي بلا إصلاح سياسي هو عملية تجميل لجسد يحتضر. ولن يتعافى لبنان ما لم يُستعد النظام الديمقراطي الدستوري القائم على حكم القانون والمواطنة المتساوية. وذلك يعني قضاء مستقل، الفصل بين السلطات، إدارة شفافة، محاربة دولة الميليشيات العميقة واعادة أموال المودعين. عندها فقط يمكن أن يُعاد بناء عقد الثقة بين اللبنانيين ودولتهم وأن يستعيد لبنان مكانته كدولة قانون ومؤسسات.
نعم... الثقة ليست شعارًا ولا وعدًا انتخابيًا بل هي بنية الدولة نفسها. ومن دونها لا تنجح خطة ولا يُصلح مصرف ولا يقوم اقتصاد. إن تعافي لبنان لا يبدأ بالأرقام بل بإصلاح الضمير المؤسسي الذي دمّرته المحاصصة والفساد. حين تُستعاد الثقة بالقضاء وتُحدَّث الإدارة وتُفصل السلطات وتُستعاد سيادة الدولة سيُفتح الباب أمام عودة الاستثمار والنمو. فلبنان لا ينقصه الذكاء ولا الإمكانات بل وفقط الثقة، تلك التي إن عادت عاد معها الوطن...
نبض