بيروت سترنّم من جديد
رئيسة مهرجان "بيروت ترنم"
لكلّ مدينةٍ قلب،
لكنّ قلب بيروت ليس كأيّ قلب.
هو قلبٌ يعرف كيف يشتعل بعد كلّ انطفاء،
وكيف يعيد لحنه حتى ولو تكسّر الصوت.
بيروت لا تستعير إيقاعها من أحد؛
هي مخلوقة من موسيقاها،
من حجارة الأزقّة التي تحفظ الخطى،
ومن أرواحٍ تُقسم أن تبقى هنا…
ولو رحل العالم.
هذا العام، يعود "بيروت ترنّم"
كما يعود الضوء بعد ليلٍ طويل،
يتسلّل إلى الروح،
يُعيد إلينا ما ظننّا أنّنا فقدناه،
ويذكّرنا بأنّ الحياة ليست ما نراه،
بل ما نهتدي إليه حين نغمض أعيننا
ونصغي.
ورغم هذا اليقين،
نمشي وفي القلب يتيمٌ قديم،
يتبعنا مثل ظلّ
لا نعرف كيف نتركه خلفنا.
فنحن — قِلّةً من العابرين المؤمنين —
نقف في وجه المستحيل كلّ عام،
لِنُبقي نافذةً صغيرة مفتوحة
لأحلام الناس،
ولحريّتهم في أن يسمعوا ويتنفّسوا
الجمال…
من دون بوابة المال.
ومع ذلك… ما زلنا وحدنا.
لا دولة تُساند،
لا وزارة تُصغي،
لا مسؤول تجرّأ على كلمة.
ولولا تلك الأيادي التي امتدّت إلينا من
محبّي المهرجان،
وأصدقاء الثقافة،
وبعض السفارات التي آمنت بالنور،
لكانت هذه الشمعة قد ذابت منذ زمن.

بيروت ترنّم لا يُشبه السياسة ولا مقاعدها.
إنّه ليس لوجه أحد،
إنّه نذرٌ للروح.
ربما لذلك يقترب من أولئك
الذين أدركوا أنّ الثقافة
ليست متحفًا من الكلمات،
بل صلاةٌ تسري في الهواء
وتبحث عمّن يسمعها.
ويتزامن المهرجان هذا العام
مع زيارة الحبر الأعظم إلى لبنان،
زيارةٌ تأتي كهمس من بعيد،
تقول إن العيش ليس معًا فقط،
بل لأجل بعضنا.
منذ ثمانية عشر عامًا
ونحن نزرع هذه الفكرة بلا ضجيج؛
لم نُقم مهرجانًا وحسب،
بل فتحنا الباب ليأتي الناس
بلا اسمٍ أو هوية أو تعريف،
ويقفوا سويًا…
علّهم يكتشفون ما يجمعهم
قبل أن يسألوا عمّا يفرّقهم.
وفي أمسيات المهرجان،
حين تتجاور الترانيم الكنسيّة
مع الإنشاد الصوفي،
وحين تمتزج الموسيقى بالصلاة،
تولد بيروت من جديد؛
مدينةٌ تعرف أنّ الاختلاف نعمة،
وأنّ تنوّعها ليس عبئًا
بل نبعُ جمال.
وفي موسيقاها…
شفاءٌ لمن أنهكته الحياة،
ويدٌ تمتدّ لمن ظنّ أنه وحده.
أما في الختام…
فنفتح هذا العام أبواب بيروت ترنّم
وقلب المدينة يبكي غيابًا لا يُعوّض:
زياد الرحباني.
ذلك الذي ظلّت موسيقاه
أصدق من الصدق،
وأعمق من الكلام،
وأوفى من السياسة والجمهور.
لن نُكرّمه باحتفالٍ فارغ،
فهو لم يُجِد التمثيل…
لكننا نهدي هذه الدورة إلى روحه
التي علّمتنا أن الموسيقى موقف،
وأنّ ما يولد من القلب
لا يموت.
نبض