التطبيع مع العدو... وخيانة داخلية
فرانسيسكا موسى
في زمنٍ تتغيّر فيه خرائط المنطقة بسرعةٍ مذهلة، وتُوقَّع فيه الاتفاقات كما تُبدَّل العناوين، يبقى لبنان واقفًا عند مفترقٍ صعب بين الذاكرة والسياسة، بين الجرح والحكمة، بين الخوف على الأمن القومي والسعي إلى الاستقرار. ومع كل حديث عن "المفاوضات" أو "التطبيع" مع إسرائيل، يُفتح في الوجدان اللبناني بابٌ من الأسئلة المؤلمة:
هل يمكن للبلد الذي نزف من اعتداءاتها أن يمدّ يده للسلام؟ وهل يكون السلام فعل شجاعة… أم فعل نسيان؟
لبنان ليس كغيره من الدول التي وقّعت معاهدات سلام أو أعادت علاقاتها الدبلوماسية. فهنا، العدو ليس فكرة في كتب التاريخ، بل جرح مفتوح على الذاكرة الوطنية. من الجنوب إلى بيروت، ما زالت آثار العدوان محفورة في البيوت والقلوب، وما زال آلاف اللبنانيين يروون قصص المقاومة، والخوف، والدمار. لذلك، حين يُطرح ملفّ التطبيع، فهو لا يُناقش ببرودٍ سياسي، بل بحرارة ذاكرة لم تبرد بعد. سياسيًا، لا يمكن إنكار أن أيّ حوار أو تفاوض مع إسرائيل يطرح إشكاليات معقّدة تتعلّق بالسيادة، والأمن، والارتباط بالتحولات الإقليمية والدولية. فلبنان، الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة وانقسامًا سياسيًا داخليًا، يخشى أن تتحوّل فكرة التطبيع إلى أداة ضغط أو مقايضة على حساب قضاياه الوطنية، وعلى رأسها حق العودة والحدود والموارد البحرية. فمن يضمن ألا يُستغل ضعف الدولة ومأزقها الداخلي لفرض "واقعية سياسية" تُغلف بالسلام، وتخفي في طيّاتها تنازلات خطيرة؟
لكن، في الوقت ذاته، لا يمكن للبنان أن يعيش في عزلة عن منطق الحوار. فالعالم اليوم يُدار بالمفاوضات، لا بالمتاريس، وبالحكمة لا بالشعارات. ومع ذلك، تبقى المسافة بين "الانفتاح الدبلوماسي" و"التطبيع السياسي" دقيقة كالشعرة، والوقوف على حافتها يحتاج إلى وعيٍ وطنيٍّ لا يُساوم، وإلى قيادة تعرف أن حماية الكرامة لا تقلّ أهمية عن حماية الحدود. الخطر الحقيقي ليس فقط في جلوسٍ على طاولة مفاوضات، بل في ما يسبقها وما يتبعها: في النوايا، في التوقيت، وفي قدرة الدولة على فرض شروطها لا الخضوع لشروط الآخرين. لأن التطبيع، إذا لم يكن مشروطًا بسيادة كاملة وعدالة تاريخية، يتحوّل من مبادرة سلام إلى ورقة استسلام.

من هنا تأتي أهمية أن تكون الدولة اللبنانية محصّنة، سياسيًا وشعبيًا، قبل أي حديث عن "مرحلة جديدة"، لأن الحوار بين غير المتكافئين لا ينتج سلامًا، بل تبعية. ورغم كل ما يُقال عن التغيّر في المنطقة، وعن حتمية "السلام الشامل"، يبقى في وجدان اللبنانيين يقينٌ لا يتزحزح: إسرائيل كانت، وستبقى، عدوًّا للبنان. قد تتبدّل اللغة السياسية، وقد تتقدّم المصلحة على المبدأ في بعض المواقف، لكن لا يمكن للذاكرة أن تمحو من أحرق البيوت ودمّر القرى وقتل الأطفال واحتلّ الأرض. العدوّ لا يتحوّل إلى صديقٍ بتوقيع اتفاق، ولا يُقاس السلام بالصور الرسمية بل بالثقة، وهذه الثقة غير موجودة… ولن تكون. ومع ذلك، ثمة حقيقة أكثر مرارة: إن العدوّ ليس فقط من يقف وراء الحدود، بل من يعيش بيننا، ينهب الدولة، ويصمت عن الفساد، ويوقّع صفقاتٍ تحت الطاولة، ويشاهد خراب الوطن من دون أن يحرّك ضميره. العدو هو من تواطأ على الناس، من خان العدالة، من غطّى المجرمين، ومن حوّل السياسة إلى سوقٍ للمساومة والدم. فما قيمة أن نقاوم إسرائيل، ونحن عاجزون عن مقاومة الفساد في الداخل؟ وما نفع أن نرفض التطبيع مع الخارج، إذا كنا قد طبّعنا مع الانهيار واللاعدالة والسكوت على الجريمة في الداخل؟ لبنان لا يحتاج إلى اتفاقاتٍ جديدة بقدر ما يحتاج إلى صدقٍ جديد، إلى وعيٍ يُميّز بين السلام كقيمة، والاستسلام كخطر. فالمفاوضات قد تكون وسيلة للحفاظ على الاستقرار، لكنها لا يجب أن تكون بابًا لنسيان من نحن ومن دفع الثمن. وإذا كان لا بدّ من مصالحة، فلتكن أولاً مع الذات؛ مع العدالة، مع الحقيقة، ومع الدولة التي تستحق أن تُبنى على ثقة الناس لا على خوفهم.
نعم، إسرائيل عدوّة لبنان، وستبقى كذلك في الوعي الوطني.
لكن العدوّ الأخطر هو كل من خان هذا البلد باسم السياسة، وكل من تاجر بأوجاعه باسم الواقعية، وكل من وقف شاهدًا على خرابٍ صنعه بيديه.
فبين حدودٍ تُرسم بالحبر، وحدودٍ تُحفر في الذاكرة، يبقى لبنان بحاجةٍ إلى سلامٍ لا يُشترى…بل يُستحق.
نبض