لبنان بين الفتنة الداخلية والمخططات الخارجية تركيبة معقدة ومخاوف متجددة
محمد عبدالله
يبدو أن لبنان، ذلك البلد الصغير بتكوينه، الكبير بتناقضاته، يعيش مجدداً على وقع صيغته المعقدة التي تتوزع على 18 طائفة وعدد من المذاهب والملل. هذه التركيبة الفريدة جعلته دائماً محط أنظار المراقبين، لما تختزنه من تداخل مذهبي وسياسي نادر في العالم العربي.
منذ استقلاله عام 1943، عايش لبنان حروباً وانقسامات طائفية كادت أن تطيح كيانه. ورغم ما يُرفع من شعاراتٍ وحدوية عن العيش المشترك، تبقى النفوس مشحونة برؤى تقسيمية خطيرة، تُبنى على إملاءات خارجية ومشاريع إقليمية تسعى إلى فرض هيمنتها على مكوّنات مذهبية بعينها.
رسائل سياسية في الشارع!
ما شهدته الساحة اللبنانية في الآونة الأخيرة يعيد طرح تساؤلاتٍ مشروعة حول ما إذا كان هناك مشروع تقسيمي يُدار من الخارج ويُنفّذ بخطواتٍ مدروسة على الأرض؟
فـ"حزب الله"، الذي اعتاد إقامة احتفالاته في مناطقه التقليدية، تعمّد هذه المرة كسر القواعد عبر تحرّكاته في مناطق رمزية غير محسوبة عليه، كما في احتفالية صخرة الروشة، أو مهرجانه الكشفي في المدينة الرياضية، وصولاً إلى رفع علم إيران في قلب العاصمة بيروت، في مشهدٍ وُصف بأنه استفزازي ويتجاهل رمزية الدولة وهيبتها.
هذه التحركات لا يمكن فصلها عن سعي الحزب إلى تعزيز نفوذه داخل الحكومة من خلال وزراء محسوبين عليه، ومحاولاته فتح معارك داخلية، والتركيز على استهداف شركات لبنانية مرتبطة بخصومه السياسيين، في ردٍّ غير مباشر على قراراتٍ اتخذت ضد احدى جمعياته.
فتنة الخدمات... والمياه مثالًا
في ظل هذا المشهد المأزوم، بات واضحاً أن الملفات الصحية والمعيشية والرقابية لم تعد سوى أدوات في لعبة الصراع السياسي.

قضية المياه المعبأة الأخيرة شكّلت مثالاً صارخاً على الانهيار المؤسساتي، إذ تحوّل خلافٌ حول فحوصٍ مخبرية ومواصفات مياه الشرب إلى معركة طائفية ومذهبية، لتتكشف هشاشة الدولة وتهاوي مؤسساتها، حتى بات البلد مهدداَ بأن "يغرق في شبر ماء"، كما يقول المثل الشعبي.
تصعيد إسرائيلي ورسائل ضغط
في موازاة الانقسام الداخلي، تشير التقارير الدولية إلى أن لبنان يقف على حافة مواجهةٍ عسكرية محتملة مع إسرائيل، تحت ذريعة ضرب "حزب الله" الذي يرفض تسليم سلاحه إلى الدولة والجيش اللبناني.
ويؤكد ذلك التصريح الاخير للمبعوث الاميركي توم باراك بأن "الفرص امام لبنان ضاقت"، وأن اسرائيل تتجه الى تنفيذ مخططها بنزع سلاح الحزب وكل ما يهدد أمنها.
يُضاف إلى ذلك ما يتداول من معطيات تؤكد أن لا إعادة إعمار ولا استقرار أمنياً أو اقتصادياً قبل إنجاز اتفاقٍ دولي نهائي مع لبنان، وسط أحاديث عن "اتفاق سلام" يلوح في الأفق، مدخله المطالبة الأميركية بتفاوض مباشر مع الدولة اللبنانية.
السلوك الإسرائيلي في الآونة الأخيرة يعزّز هذه المخاوف، إذ اتجهت الضربات نحو المؤسسات الاقتصادية والآليات والجرافات المستخدمة في أعمال الإعمار ورفع الردم في الجنوب، في محاولة لخنق البيئة الحاضنة للحزب، ودفعها إلى الانفجار من الداخل.
كل هذه المعطيات تطرح تساؤلاتٍ مصيرية: هل يمكن أن تتجه البلاد نحو تقسيم فعلي، فتُغلق المناطق في وجه بيئة الحزب؟
وهل نحن أمام سيناريو حرب أهلية جديدة تُشعلها فتنة داخلية برعاية خارجية ضمن مخطط إسرائيلي لإعادة رسم خريطة النفوذ في لبنان؟
لبنان عند مفترق مصيري
المشهد العام يوحي أن البلاد تسير نحو أسوأ الاحتمالات، وسط انهيارٍ متسارع في بنية الحزب والمحور الإيراني، وغيابٍ شبه تام للعقل والمنطق، وهيمنة ثقافة الفوضى والتهديد والموتوسيكلات التي تجوب الشوارع كرمزٍ لسلطةٍ موازية تُخضع الدولة وتُرهب المجتمع.
إنه مشهد يختصر مأساة لبنان الحديثة: وطنٌ يتآكل من الداخل، وتنهشه قوى الظلام، فيما الدولة تتفرج على رمادها يتطاير في الهواء.
إلى أين؟
المؤشرات السياسية والميدانية تشير إلى أن المرحلة المقبلة ستكون مفصلية في تحديد مصير لبنان. فإما أن ينجح المجتمع الدولي في احتواء التوتر وفرض تسوية سياسية تعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة وتفعّل دور الجيش كضامن وحيد للأمن، وإما أن البلاد ستنزلق نحو مواجهة داخلية مفتوحة تُستخدم فيها الطائفية سلاحاً لتصفية الحسابات، وتتحول فيها الساحات اللبنانية إلى منصات صراعٍ إقليمي بالوكالة.
وتتجه الأنظار الى المبعوثة الاميركية مورغان اورتاغوس التي زارت اسرئيل وتلتقي المسؤولين في لبنان بهدف خفض وتيرة التصعيد .
يبقى الأمل الأخير معقوداً على وعي اللبنانيين، وقدرتهم على تجاوز الاستقطاب المذهبي، وإدراك أن أي حرب داخلية جديدة لن تُبقي لهم وطناً، بل ستُسقط آخر ما تبقّى من دولةٍ كانت تُسمّى "لبنان الرسالة".
المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية
نبض