أسطول الظل... نفط يبحر في العتمة بعيداً عن العقوبات
شفيق طاهر
في عرض البحر، حيث تختفي إشارات التتبع وتغيب أعين الرقابة، تتحرك ناقلات نفط ضخمة لا ترفع علما واضحا ولا تملك سجلا شفافا. إنها سفن "أسطول الظل" الذي صار الوجه الخفي لتجارة النفط في زمن العقوبات.
اقتصاد في الظلام
حين فرض الغرب عقوبات قاسية على صادرات النفط الروسية والإيرانية والفنزويلية، لم يتوقف تدفق الخام إلى الأسواق. بدلا من ذلك، ظهر "اقتصاد مواز" يعمل في الظلام، تديره مئات السفن القديمة المسجلة بأسماء وهمية أو تحت أعلام دول صغيرة لا تدقق كثيرا في نشاطها.
هذه الناقلات تبحر بلا نظام تتبع، تغير أسماءها باستمرار، وتجري عمليات نقل للنفط من سفينة إلى سفينة في عرض البحر لتبديل هوية الشحنة. وفي الموانئ البعيدة، تدخل النفط إلى الأسواق الآسيوية وكأنه قادم من مصدر "نظيف".
روسيا وإيران في مقدمة المستفيدين
روسيا كانت أول من أدرك أهمية الأسطول المظلم. فمنذ فرض عقوبات على بيع نفطها عام 2022، استخدمت شبكة معقدة من السفن لبيع النفط إلى الصين والهند بأسعار منخفضة، لتبقي خزائنها ممتلئة رغم الحظر الغربي.
أما إيران، فهي صاحبة التجربة الأقدم في التحايل على العقوبات. شبكتها النفطية تمتد عبر ماليزيا وسنغافورة، حيث تخلط شحنات نفطها مع شحنات نفط دول أخرى وتعاد تصديرها كأن مصدرها هذه الدول. فنزويلا بدورها وجدت في هذا النظام متنفسا لتسويق نفطها رغم القيود الأميركية.
وسطاء وأرباح في الظل
خلف هذه التجارة المعقدة يقف جيش من الوسطاء وسماسرة النقل والتأمين. يشترون ناقلات متهالكة بثمن رخيص، يؤمنونها عبر شركات غير خاضعة للرقابة الغربية، ثم يبيعون خدماتهم للدول الباحثة عن منفذ. إنها سوق مغرية، المخاطر كبيرة، لكن الأرباح أكبر.
هذا الاقتصاد الرمادي لا يقوم فقط على المراوغة، بل على نظام عالمي عاجز عن فرض مراقبة كاملة. فالمحيطات واسعة، والعقوبات لا تطال سوى من يظهر اسمه.

ثمن باهظ تدفعه البيئة
وراء كل رحلة في "أسطول الظل" يكمن خطر بيئي حقيقي. فالسفن قديمة والتأمين الضعيف وغياب الصيانة تجعل الحوادث أكثر احتمالا. تسرب واحد يمكن أن يدمّر شواطئ كاملة، لكن لا جهة تتحمل المسؤولية لأن الملكية مخفية خلف شركات واجهة في جزر بعيدة. مثلما حدث في بحر الصين الجنوبي عام 2023 حين اصطدمت ناقلة "مظلمة" بسفينة شحن وفقدت السيطرة عليها..
الغرب يطارد الأشباح
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وسعا قوائم العقوبات لتشمل عشرات الناقلات، ومنعا بعضها من دخول الموانئ الأوروبية. كما طرحت خطط لتوقيف السفن المشتبه بها في المياه الدولية. لكن المواجهة ليست سهلة، فالسفن تباع وتبدل أسماءها بسرعة، والملاك ينتقلون بين دول غير متعاونة، لتبدأ المطاردة من جديد.
تجارة رمادية وعالم من الالتفاف
أسطول الظل ليس مجرد عملية تهريب، بل انعكاس لفشل العقوبات في ضبط حركة الاقتصاد العالمي. حين يغلق باب التجارة الرسمي، تفتح أبواب أخرى في الظلال. وفي كل ميناء بعيد، هناك ناقلة تفرغ حمولتها بصمت لتعيد تشكيل خريطة الطاقة.
لا أحد يعرف على وجه الدقة عدد السفن التي تبحر في هذا الأسطول، ولا كمية النفط التي تنقلها كل يوم. ما هو مؤكد أن الظل صار جزءا من الاقتصاد العالمي، وأن معركة العقوبات لم تعد تدور في المكاتب، بل فوق أمواج البحر.
في النهاية، يظل السؤال معلقاً:
هل يمكن للعقوبات أن توقف تدفق النفط؟ أم أنها تخلق فقط تجارة أكثر غموضا… وأشد ربحا في العتمة؟
نبض