الزيتون حرفُ الله الأخضر
ريمي الحويك
في الخريف، حين تخفُّ حدّة الشمس ويعبق النسيم برائحة التراب المبلول، تُزهر الذّاكرة قبل الأغصان. هذا هو موسم الزيتون. موسم لا يُقاس بالتقويم بل بالحنين. موسم لا يُحتفل به بالقطاف فقط، بل بالانتماء. فيه تولد البركة من التعب، ويُستعاد الإيمان من الجذور، وتصبح الأرض أمّاً تنحني على أطفالها لتمنحهم ذهبها السائل.
لم تُكرَّم شجرة كما كُرِّمَت شجرة الزيتون. على جبل الزيتون صلّى السيّد المسيح، وتأمّل، وصعد منه إلى السماء، فصار الزيتون شاهداً على الوصل بين الأرض والسماء. وفي القرآن وردت شجرة الزيتون بوصفها "شجرة مباركة". أمّا في التوراة، فكانت غصونها أوّل رمز للسلام، حين حملت الحمامة غصن الزيتون إلى نوح بعد الطوفان. وهكذا أصبح الزيتون لغة مشتركة وجسراً بين الأديان.

في لبنان، ليست شجرة الزيتون مجرّد شجرة، بل هويّة خضراء تمتدُّ في الدم واللغة. إنّها ذاكرة القُرى، وملكة الحقول التي ورثها الأبناء عن الأجداد. تُقطَع، فتنبُت. تُحرَق، فتنجو من جديد. كأنّها تجسيد حيّ لفكرة الصمود والمقاومة.
في فلسطين، الزيتون لا يركع، على التلال يقف صامتاً، شاهداً، صامداً، ينتظر السلام بين الأغصان.
ألْهَمَ الزيتونُ الشعراء والفنّانين، فصار لغة مشتركة بين القلب والأرض. قبّاني رأى فيه رحم الأرض والخصوبة، والرحابنة وفيروز غنّوا له الثبات والعطاء، بينما جعل درويش منه مرآة فلسطين، وربطه جبران بين العمل والإيمان.
الزيتون لنا، لغة الرّوح ومرآة الجذور ورحيق الانتماء. في أوراقه نرى تاريخ الأرض، وفي أغصانه صبر الإنسان، وفي ثماره بركة الحياة التي تمتدُّ من القلب إلى اليد، ومن الأرض إلى السماء.
يبدأ موسم القطاف في أواخر تشرين الأول ويمتدُّ حتى مطلع كانون الأول. تتحوّل الحقول إلى مهرجان ريفيّ، تُفرَش الأغطية تحت الأغصان، وتعلو زغاريد النساء وابتهالاتهنّ. تتدلّى الثمار السّوداء والخضراء كحبّات من ذهب، تُقطف باليد وتُحمل إلى المعاصر الحجريّة، حيث تفوح رائحة التّاريخ والبركة. من هناك ينساب الزيت الذهبيّ، أوّل قطرة تُسمّى "العصرة المباركة"، تُغمَس فيها كسرة الخبز، ويُبارَك بها البيت، وتُحفَظ في القوارير كأنّها كنز من نور.
من ثماره يُستخرج الزيت، فيه دواء وغذاء ونور. يُستخدم في الطبخ والعلاج والطقوس الروحيّة. أوراقه تُستعمل في العلاج، وخشبه يُنحَت منه الصليب والمسبحة، ونواته تُستغلّ وقوداً أو سماداً، فلا يُهدر منه شيء، كأنّ البركة تسري في كلّ ذرة منه، من الجذر حتى الورقة.
في قريتي، تتمدّد أجنحة الأمهات بين الغصون، فتتدلّى الأغصان نحوهنّ، تُلامس أصابعهنّ حبوبها برفقٍ كمن تخشى أن توقظ طفلاً نائماً. مع كل حبّة تُرفَع بالكفّ، يضوي الإيمان في العيون، وتنبعث همسات "باسم الله" من بين شفاههنّ. القرية بأكملها تتزيّن كعيد، على حافة شوارعها، على موائدها وشرفاتها، على واجهات السيارات وفي ساحات الكنائس، في ملعب المدرسة وعلى عتبة الدكاكين؛ كل زاوية تتحوّل إلى واحة خضراء، ويصبح الزيتون بين الأيادي والقلوب رمزاً لحياة تتنفّس فيها القرية بأكملها، ورمزاً لموسم الخير والنعم، وصلاة شكرٍ لروحِ من زرعَ وروى ورحل.
الزيتون لنا ليس شجرةً فحسب، بل نَصٌّ من نورٍ مكتوب على تراب الأرض. إنّه حكاية الإنسان الأوّل حين غرس، وحين أحبّ، وحين آمن بأنّ الحياة الأبديّة تولد على التراب وتستمرّ تحته.
من سفينة نوح إلى سفوح فلسطين، ومن جبال لبنان إلى أغاني فيروز، يظلّ الزيتون رمزاً للسلام والبركة والهويّة، لمسة المعمودية ومسحة الوداع.
أجمل ما في شجرة الزيتون أنّها لا تُبكينا، لأنّها لا تموت.
نبض