المناطق المنسيّة في لبنان... جمهور بلا صوت

أحمد دلول
في دولةٍ صغيرة كلبنان، يفترض أن يكون صدى المواطن الواحد مسموعًا، لكنّ الواقع يروي حكاية معاكسة. من الشمال إلى البقاع، تمتد خريطة كاملة من الإهمال، تُختصر بعنوانٍ واحد: "المناطق المنسيّة". عكّار، بعلبك، عرسال، الهرمل، سهل البقاع، طرابلس القديمة... أسماء تتردّد فقط حين تقع الكارثة، أو حين تُفتح صناديق الاقتراع. أمّا في الأيام العادية، فتبقى بعيدة عن الضوء، وكأنها ليست من هذا الوطن.
من يزور تلك المناطق اليوم لا يحتاج إلى تقارير رسمية ليعرف حجم المأساة. الطرق محفّرة، الكهرباء شبه غائبة، المياه شحيحة، المستشفيات الحكومية بلا تجهيزات، والمدارس الرسمية تنهار على رؤوس طلابها. في بعض القرى، ما زالت العائلات تعيش كما في خمسينيات القرن الماضي، بينما في العاصمة بيروت تُناقش الطبقة السياسية "التحوّل الرقمي" و"الطاقة المستدامة". المفارقة قاسية: هناك لبنانان، أحدهما في الصورة، والآخر في الظل.
أصوات تُدفن في الصمت
في عكّار مثلًا، يُولد الشاب على فكرةٍ واحدة: "الهجرة هي الخلاص". ففرص العمل معدومة، والمشاريع غائبة، والدولة لا تزور إلا في المواسم الانتخابية. أما في بعلبك–الهرمل، فالمواطن لا يُسأل عن طموحاته، بل عن انتمائه السياسي. والخدمات تُوزّع بحسب الولاء، لا الحاجة. حتى عرسال التي كانت في الخطوط الأمامية خلال الحرب السورية، تركت لتواجه مصيرها وحدها. الدولة كانت تمرّ من هناك فقط عندما تريد "الأمن"، لا عندما يحتاج الناس إلى الأمان.
هذه المناطق ليست فقيرة فقط بالمال، بل أيضاً بالتمثيل. فالإعلام يتعامل معها كأنها "بعيدة"، والسياسيون يزورنها بالكاميرات لا بالمشاريع، والمجتمع المدني يرفع شعارات "العدالة المناطقية" من قلب بيروت، دون أن تطأ قدماه أرض البقاع أو الشمال. هكذا تحوّل الإهمال إلى منهجٍ دائم، والسكوت إلى عُرفٍ سياسي.
اقتصاد على الهامش
الإهمال لم يقتل الناس فقط معنويًا، بل خنق اقتصادهم. في سهل البقاع مثلًا، ما زال المزارعون يزرعون أرضهم بوسائل بدائية، يواجهون الأسعار العالمية بلا دعمٍ ولا حماية. في عكّار، البحر مفتوح لكن الصيادين بلا ميناء مجهّز. في طرابلس، المدينة الفقيرة على البحر الغني، المرفأ محاصر بالمصالح والوعود. وكأنّ الدولة تقول لهذه المناطق". ابقوا على قيد الحياة... ولكن لا تتقدّموا".
متى تُرفع العزلة؟
المشكلة ليست جغرافية فقط، بل فكرية. فالنظام اللبناني بُني على مبدأ "المناطق التابعة"، لا "المناطق المتساوية". التنمية كانت دائماً تُقاس بقربك من مركز القرار، لا بحاجتك الفعلية. حتى اليوم، لا توجد خطة وطنية متكاملة تُعالج الفوارق المناطقية. كل ما هنالك مبادرات فردية، مساعدات موسمية، ووعود انتخابية سرعان ما تتبخّر مع أول مطرٍ أو أزمة.
لكن رغم كل هذا الإهمال، تبقى في تلك المناطق طاقة بشرية حقيقية: شباب يتعلّمون رغم الظروف، مزارعون لا يتركون أرضهم، نساء يدرن عائلات في غياب الدولة. هؤلاء ليسوا ضحايا فحسب، بل نواة لوطنٍ جديد لو أراد أحد أن يسمعهم.
خاتمة: لبنان الذي لا يُرى
لبنان المنسي ليس على الأطراف، بل في القلب. في وجوه الناس الذين تعبوا من الانتظار، في المدارس التي تحوّلت إلى أطلال، وفي القرى التي ما زالت تنتظر وعد الدولة. فهل يمكن أن يُبنى وطنٌ حقيقي بينما نصفه يعيش في الظل؟
ألمي يحن الوقت ليسمع لبنان الرسمي نبض لبنان المنسي؟