حين يصمت الزيتون

منبر 20-10-2025 | 12:31

حين يصمت الزيتون

في كلّ خريف، كانت رائحة الزيتون تسبق أهله إلى الحقول. كانت القرى الجنوبية، من كفركلا الى درميماس، تستيقظ على ضحكات النساء ونداءات الرجال وهم يقطفون الثمار الخضراء. 
حين يصمت الزيتون
جرار زراعي قُبالة موقع إسرائيلي جنوبي لبنان (أحمد منتش).
Smaller Bigger

فاتن كحيل 


في كلّ خريف، كانت رائحة الزيتون تسبق أهله إلى الحقول. كانت القرى الجنوبية، من كفركلا الى درميماس، تستيقظ على ضحكات النساء ونداءات الرجال وهم يقطفون الثمار الخضراء. كان الخريف عيداً صغيراً في الجنوب: الأرض تلبس ثوبها الذهبي، والأطفال يركضون بين الأشجار، والبيوت تمتلئ بصوت المعاصر ودخان الحطب. لكن هذا العام، حين عاد الخريف... عاد وحده.
في تلك السنوات الهادئة، كان موسم الزيتون يعني الحياة نفسها. كل عائلة تملك حقلاً، وكلّ بيت له رائحة زيت خاصّة. في درميماس، كانت المعاصر تعمل حتى منتصف الليل، وفي كفركلا، كان الزيت يملأ الجرار الحجريّة التي توارثها الأهالي عن أجدادهم.

"كان الموسم مثل العرس"، تقول ام فادي بابتسامة حزينة، "نغنّي ونلمّ الزيتون سوا... الشّجر كان يضحك معنا".
حين اندلعت الحرب الأخيرة، لم تفرّق بين حجرٍ وشجر. سقطت القذائف على الحقول، احترق بعض البساتين، واقتلعت جذوع عمرها عشرات السنين. لم تسلم حتى شجرة الزيتون، رمز الصبر والسلام، من النار.
بعد انتهاء المعارك، عاد الأهالي الى أراضيهم بخطوات مترددة. وجدوا الأرض مدمّرة، والأغصان مكسّرة، والثمار اليابسة مبعثرة على التراب. كانت الحقول تشبههم: متعبة، لكنّها واقفة.
"رجعت على الحقل ودمعت. الشجرة اللي زرعها بيّي اختنقت بالدّخان، بس بعدها واقفة"، يقول أبو علي المزارع من كفركلا.
هذا الخريف، بدا موسم الزيتون كظلّ لموسم كان. عدد من الأهالي قرّروا عدم القطاف: الأكلاف مرتفعة، الإنتاج ضعيف، والمعاصر شبه خالية. حتّى الوصول الى الأراضي صار مغامرة، إذ منعت القرارات الاسرائيليّة الأخيرة المزارعين من دخول بعض المناطق الحدوديّة من دون تنسيق مسبق، بحجّة أسباب أمنيّة.
"صرنا نطلب الإذن لنروح نحكي مع شجرة زرعناها بإيدينا!"، يضيف حسن من كفركلا، وهو يلوّح بغصنٍ يابس.
لكن "أبو فادي"، وهو مزارع ستيني من كفركلا، قرّر أن يعود رغم الخطر. يقول بابتسامة متعبة: "هيدي أرضي، ما بتركها. السنة ما رح نعمل موسم كبير، بس المهم نرجع ونشم ريحة الزيت".
"صرنا نحسب الخطوات، ما بقى فينا نروح نلمّ الزيتون متل زمان".
في إحدى زوايا الحقول التي تطلّ على الحدود، يجلس أبو حسن على صخرة بين أشجار متفحّمة الأطراف. يحدّق في الأغصان اليابسة ويقول: "كنّا نعيش من الزيتون... اليوم ما في موسم، الحرب حرقت، والمطر تأخّر، والأكلاف نار".
ويتابع: "كنت جيب عشرين صفيحة زيت، اليوم يمكن ما جيب ثلاثة. المعصرة بدها مازوت، والعمال بدهم مصاري، والنتيجة خسارة".
على بعد كيلومترات قليلة، في درميماس، القرية التي لطالما اشتهرت بزيتونها الفاخر، المعاصر شبه خالية. العمّال الذين اعتادوا صخب الموسم يجلسون عند الأبواب الخشبية، يراقبون الفراغ. انخفض الإنتاج الى النصف. أشجار كثيرة لم تُقطف، وأخرى أصيبت ولم تعد تثمر. لكن رغم ذلك، يصرّ بعض المزارعين على العودة. تقول ليلى، من درميماس: "ما بدنا نخلّي الشجر يعتاد الغياب... الأرض بتنسى إذا ما حكيتها".
رغم الألم... الزيت ما زال يضيء في المعاصر القديمة، يدور الحجر ببطء، كميّة الزيت قليلة، لكن رائحته أقوى من أي وقتٍ مضى. كلّ نقطة تخرج من المعصرة تحكي قصّة نجاة: شجرة احترقت ولم تمت، مزارع عاد رغم الخوف، وقرية أعادت فتح أبوابها على الحياة.
"الزيت طلع من بين الرماد... متل الجنوب تماماً"، تقول ام حسين، الخيام.
كانت الحرب قد تركت وراءها أرضاً مثخنة بالجروح، مملوءة ببقايا القذائف ومخلّفات الحديد. لكن أبناء القرى، رغم التعب والخوف، عادوا بخطى بطيئة إلى الحقول. عادوا لأنهم لا يعرفون حياة من دون زيتون، ولأنهم يؤمنون بأن من يزرع هذه الشجرة، يزرع الأمل في قلب الدمار.
الحقول لم تكن وحدها من دفع ثمن الحرب والقرار، آلاف الأشجار احترقت أو تضررت بفعل القصف، وبلغت الخسائر في بعض المناطق أكثر من 60 ألف شجرة.
من كفركلا الى درميماس، بقيت الحقول شاهدة على وجع الحرب وعلى صبر الناس. ربما لم يكن الموسم وفيراً هذا العام لكنّ الجنوب أثبت من جديد أنّه لا يعيش على المحصول وحده، بل على الإصرار. الحرب غيّرت الوجوه، لكن الزيت بقي هو ذاته... نقيّاً، صامداً، برائحة لا تموت. فالزيت الذي يخرج من أرض مجروحة، هو في النهاية زيت الصمود.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/24/2025 6:56:00 AM
أثار الفيديو المتداول موجة من الغضب بين رواد مواقع التواصل
اسرائيليات 10/24/2025 1:25:00 AM
لفت إلى أن "نتنياهو يسير على حبل رفيع مع ترامب".
سياسة 10/22/2025 8:06:00 PM
تحليل تقني يحذّر من إمكانات الدرونات التي تُحلّق فوق بيروت