من الميدان إلى السردية كيف أعادت غزة تعريف النصر

المحامي خالد عجاج
في الحروب المعاصرة لم يعد النصر يقاس بعدد الدبابات المدمرة ولا بالمناطق المحتلة، بل بالقدرة على البقاء وبتحقيق المعنى السياسي بعد الدمار، فحين يصبح الصمود ذاته فعل مقاومة تتحول معادلة الحرب إلى امتحان للوعي أكثر من كونها اختباراً للقوة. ومن هذه الزاوية تحديداً يمكن فهم ما جرى في غزة؛ معركة لم تربحها إسرائيل عسكرياً ولم تخسرها حماس سياسياً. إنها حرب أنهكت الجميع، لكنها أعادت تعريف "من يملك زمام الرواية" في هذا الصراع الطويل.
من داخل إسرائيل نفسها لم تعد الأصوات الناقدة خافتة. المحلل العسكري في صحيفة معاريف آفي أشكنازي كتب بوضوح أن حماس انتصرت لأنها أثبتت أنه يمكن تحدي إسرائيل وصمدت لعامين في حرب هي الأعنف منذ 77 عاماً، ونجحت في كسب الرأي العام العالمي إلى صفها. هذا التوصيف الصادر من داخل المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية لا يحمل مبالغة عاطفية، بل اعترافاً بواقع جديد أن القوة وحدها لم تعد تصنع النصر.
وفي يديعوت أحرونت، يذهب المحلل آفي يسسخاروف الى أبعد من ذلك حين يؤكد "أن ما يجري في غزة ليس نصراً عسكرياً لإسرائيل بل مكسب سياسي لحماس التي تحقق أهدافها على الساحة الدولية، منتقداً حكومة نتنياهو التي جعلت من استمرار الحرب هدفاً بحد ذاته، وفقدت البوصلة السياسية". ويضيف يسسخاروف في مقاله " لا نصر ولا نصر مطلق، حماس بقيت في الحكم في غزة". ويصف التسوية الحالية "بأنها مؤلمة ولكنها ضرورية في ظل فشل الحكومة في ترجمة الانتصار العسكري إلى تغيير سياسي في الواقع".
اما هآرتس فقد قدمت قراءة أكثر شمولية حين قالت إن "حماس حافظت حتى نهاية الحرب على بنيتها وقيادتها في غزة دون انشقاقات، واستمر التهديد الإسرائيلي محدوداً، ما يضمن استمرار تأثيرها مستقبلاً". وأشارت إلى أن الحركة حققت إنجازين رئيسيين؛ الأول إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي وتصوير غزة كضحية في الوعي الدولي، والثاني نجاحها في إطلاق مئات الأسرى الفلسطينيين، وهو إنجاز لم تحققه السلطة الفلسطينية ويحظى بإجماع وطني نادر.
وفي السياق نفسه، كتب الصحفي الإسرائيلي البارز بن كسبيت في صحيفة المعاريف مقالاً وصف فيه المشهد بعبارات صريحة "على الأرض حصلت حماس بالضبط على ما أرادته، انتهت الحرب وهي لا تزال حية وتقف على قدميها. لن تسيطر على غزة في المرحلة الأولى ولكنها ستديرها ولن تتخلى عن سلاحها. مقاتلو حماس انتشروا بالفعل في غزة أمس، إنهم يطلقون النار على المتعاونين، وقد استولوا على المساعدات الإنسانية، وهم من يديرون المشهد". ويضيف كسبيت أن "خروج الجيش الإسرائيلي من القطاع سواء استغرق أسبوعين أو شهرين لن يغير شيئاً من حقيقة أن حماس هي من بقيت في الميدان".
هذه المواقف الإسرائيلية لا تعبر فقط عن انقسام الرأي، بل عن تحول في إدراك الذات داخل إسرائيل. فالدولة التي كانت تفرض روايتها على العالم، تجد نفسها اليوم في موقع الدفاع، محاصرة أخلاقياً ودبلوماسياً، فيما تتسع الهوة بين قوتها العسكرية وصورتها السياسية. فمع كل يوم من الحرب كانت تتآكل مكانتها الدولية، ويزداد الشرخ بين جيش يقاتل وقيادة لا تعرف إلى أين تمضي.
في المقابل خرجت حماس من الحرب مثقلة بالدمار، لكنها أكثر حضوراً في الوعي العربي والعالمي. لقد خسرت الكثير من مقاتليها ومن أبناء غزة، لكنها ربحت رمزية نادرة، رمزية البقاء في وجه الإبادة. فهي اليوم رغم كل شيء حاضرة في خطاب الدول الكبرى، في الجامعات الغربية وفي ساحات أوروبا، بينما تتراجع قدرة إسرائيل على الدفاع عن سرديتها التاريخية.
هل يعني ذلك أن حماس انتصرت؟ لا بالمعنى العسكري بالتأكيد، ولكنها انتصرت فيما هو أخطر وأبعد مدى، انتصرت في الوعي الدولي في سردية الصراع وفي إعادة الاعتبار لفلسطين كقضية أخلاقية كونية، لا كملف أمني إسرائيلي. أما إسرائيل فقد ربحت جولات نارية عابرة لم تغير شيئاً من جوهر المعادلة. استعرضت قوتها التدميرية ولكنها فشلت في ترجمتها إلى مكسب سياسي أو تغيير إستراتيجي على الأرض، ومع كل صاروخ أطلق وكل حيّ دمر كانت صورتها الأخلاقية تتهاوي، وتتبدد شرعيتها أمام الرأي العام العالمي الذي رأى في غزة الضحية لا الجاني. وبذلك خسرت إسرائيل المعنى، والمعنى في السياسة أثمن من النصر في الميدان.
إن النصر في هذا الزمن ليس من يحتل الأرض بل من يملك القدرة على أن يروي القصة. وحماس رغم مأساة غزة باتت تملك اليوم سردية أقوى من صواريخها. أما إسرائيل فتكتشف يوماً بعد آخر أن التفوق العسكري لا يصنع شرعية، وأن الاحتلال مهما طال لا يمكن أن يكتب آخر فصول التاريخ.
المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية