الأطفال بين مطرقة الحضانة وسندان النفقة

منبر 16-10-2025 | 03:48

الأطفال بين مطرقة الحضانة وسندان النفقة

العدالة لا تُقاس بقرار يصدر عن المحكمة، بل بقدرة الأهل على الارتقاء فوق خلافاتهم. فالنفقة والحضانة والحراسة والمشاهدة والاصطحاب، ليست خطوط جبهة، بل التزام أخلاقي متبادل للحفاظ على مصلحة الكائن الأضعف في المعادلة ألا وهو "الطفل".
الأطفال بين مطرقة الحضانة وسندان النفقة
صورة تعبيرية (مواقع)
Smaller Bigger

حبيب خلف*

 

في خضم النزاعات العائلية التي تشهدها المحاكم اللبنانية المذهبية والشرعية والروحية، يبرز موضوع الحضانة والحراسة والمشاهدة والاصطحاب والنفقة كأحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، لما يتداخل فيه من مشاعر، وحقوق، والتزامات قانونية، وأعراف اجتماعية. وغالباً ما يتحوّل الخلاف بين الأهل إلى ساحة صراع مفتوحة، تُستخدم فيها القوانين لا كأداة عدالة، بل كسلاح ضغط متبادل، فيما يبقى الطفل الضحية الصامتة التي تدفع أثمان أخطاء الكبار.

وفي واقع الأمر يتبيّن أن القانون اللبناني في هذا المجال يتوزع بين المحاكم الشرعية والمذهبية والروحية تبعاً لانتماء الأطراف الطائفي، وهو بذلك لا يعتمد على نص مدني موحّد للحضانة، بل على أحكام تستمد جذورها من الشرائع الدينية. ومع ذلك، فإنّ المبدأ المشترك الذي تؤكد عليه كل الأنظمة القانونية والدينية في لبنان هو مصلحة الطفل الفضلى، أي أن يُراعى ما يضمن نموّه الجسدي والنفسي والاجتماعي والدراسي السليم، بغض النظر عن نزاعات الأبوين.

لكن الواقع العملي يظهر فجوة كبيرة بين النص والتطبيق. فعندما تُمنح الحضانة للأم مثلاً، تُلزم المحكمة الأب بدفع نفقة تشمل المأكل، الملبس، التعليم، والاستشفاء. إلا أن هذا الواجب المادي كثيراً ما يتحول إلى وسيلة ضغط متبادلة: فبعض الأمهات يستعملن النفقة لتصفية الحساب، فترهق الأب بمطالب مالية تفوق طاقته، أو تُنفق المال في غير مصلحة الأولاد، بينما تُقيّد مشاهدة الأب لأولاده أو تحرمهم من التواصل معه، فتخلق بيئة نفسية غير متوازنة للطفل.

 

مصلحة الطفل فوق الأنا
مصلحة الطفل فوق الأنا

 

في المقابل، هناك آباء يتحايلون على النفقة عبر إخفاء مداخيلهم أو التهرّب من الدفع، في محاولة للضغط على الأم الحاضنة أو معاقبتها. هذا السلوك لا يضرّ بالأم فحسب، بل يهدد الاستقرار المعيشي والنفسي للأطفال الذين يجدون أنفسهم بين طرفٍ ممتنع وطرفٍ مستغل.

من الناحية القانونية، تنص القواعد العامة في القانون اللبناني – سواء في القوانين المدنية أو الأنظمة المذهبية والروحية– على أن النفقة حقّ للولد وليست منّة من أحد الأبوين. وهي بالتالي تُدفع لصالح الطفل لا لصالح الطرف الحاضن، ما يعني أن استعمالها كسلاح للانتقام يشكّل إساءة واضحة لحقّ الطفل، وقد يعرّض الطرف المسيء للمساءلة القانونية. كما أن حرمان أحد الأبوين من حقّ المشاهدة أو الاصطحاب أو الزيارة يُعتبر خرقاً لقرارات الحضانة والحراسة ويُعاقب عليه قانوناً، لأن التواصل مع كلا الوالدين يُعدّ ركناً أساسياً في تربية سليمة ومتوازنة.

ولعل من المفيد أن نذكر أنّ أحكام النفقة والحضانة والحراسة والمشاهدة والاصطحاب، تأخذ أحياناً وقتاً طويلاً للبت بها في عدد كبير من المحاكم الروحية والمذهبية، في حين ان عدداً لا بأس به من هذه المحاكم يصدر قرار النفقة المعجل على شكل سلفة أولية تدفع للأطفال بواسطة الوالدة لحين البت بأساس النزاع، انطلاقاً من المبدأ القائل: "البطن لا يحمل التأجيل"، ولا بدّ من تعميم هذا الأمر على كافة المحاكم، إذ ان بعض القرارات تستغرق أكثر من ستة أشهر للبت بها مما يثقل كاهل الوالدة بأعباء مادية كبيرة خاصة عندما يتعلق الموضوع بالأقساط المدرسية أو الطبابة أو بدل المسكن.

وفي هذا المقام، إن القانون اللبناني، رغم محدودية تطبيقه أحياناً، يعطي للمحكمة سلطة تقديرية لتقدير النفقة تبعاً لدخل الأب، واحتياجات الطفل، ومستوى المعيشة العائلي، كما يتيح إعادة النظر في قيمتها عند تغيّر الظروف الاقتصادية أو تبدّل واقع العملة الوطنية- كما حدث مؤخراً في لبنان- لكن ضعف المتابعة التنفيذية، وتباطؤ الإجراءات، وغياب مراكز رقابة فعالة على صرف النفقة، كلها عوامل تجعل النص القانوني عاجزاً عن حماية الطفل من التلاعب.

المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح النصوص، بل تطوير ثقافة أبوية وأمومية مسؤولة. فالحضانة أو الحراسة ليست جائزة تُمنح، ولا النفقة عقوبة تُفرض، بل كلاهما وجهان لمبدأ واحد: واجب حماية الطفل وتأمين توازنه. وعندما تُستخدم هذه الحقوق لليّ الأذرع أو لتمويل حياة أحد الطرفين على حساب الآخر، نفقد جوهر العدالة ونحوّل الأبناء إلى رهائن.

العدالة لا تُقاس بقرار يصدر عن المحكمة، بل بقدرة الأهل على الارتقاء فوق خلافاتهم. فالنفقة والحضانة والحراسة والمشاهدة والاصطحاب، ليست خطوط جبهة، بل التزام أخلاقي متبادل للحفاظ على مصلحة الكائن الأضعف في المعادلة ألا وهو "الطفل".

إن مستقبل الأجيال المقبلة في لبنان لن يُبنى على الأحكام القضائية وحدها، بل على وعيٍ جديد يضع مصلحة الطفل فوق الأنا، ويعيد للأسرة معناها كمكان أمان لا ميدان صراع.

* دكتور في القانون الكنسي


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

النهار تتحقق 10/15/2025 10:36:00 AM
"الرهائن الإسرائيليون بالبيجامات الكاستور المصرية". ضجة في وسائل التواصل بسبب مشاهد تقصّت "النّهار" صحّتها. 
لبنان 10/15/2025 7:13:00 AM
التفجير استهدف مجدداً حي المساير الذي تعرض سابقاً لأكثر من عملية مماثلة
سياسة 10/15/2025 6:09:00 PM
غارة من مسيرة تستهدف رابيد على طريق صديقين وأنباء عن إصابات
سياسة 10/15/2025 10:23:00 PM
 طارق متري يستنكر تسريب جوازات السفر الخاصة بالوفد السوري الذي زار لبنان أخيراً، واصفاً هذا التصرف بأنه غير مقبول.