بناء الوطن من خلال قطاع الخدمات اللوجستية: لماذا يُعد الاستثمار في البنية التحتية في جنوب لبنان مفتاحاً للتعافي الاقتصادي؟

اقتصاد وأعمال 14-10-2025 | 11:12

بناء الوطن من خلال قطاع الخدمات اللوجستية: لماذا يُعد الاستثمار في البنية التحتية في جنوب لبنان مفتاحاً للتعافي الاقتصادي؟

لا يكمن سرّ النهضة الاقتصادية في الأرقام المالية وحدها، بل في تطوير البنية التحتية لأحد أكثر القطاعات التي تحرّك الأسواق وتسرّع النمو: قطاع الخدمات اللوجستية.
بناء الوطن من خلال قطاع الخدمات اللوجستية: لماذا يُعد الاستثمار في البنية التحتية في جنوب لبنان مفتاحاً للتعافي الاقتصادي؟
تعبيرية. (ذكاء اصطناعي)
Smaller Bigger

رامي بيطار*

 

في بلدٍ تتزاحم فيه الأزمات وتتداخل فيه الحلول، يغيب عن النقاش العام ركنٌ أساسي لا حياة للاقتصاد من دونه، هو قطاع الخدمات اللوجستية. فنحن نتحدث كثيراً عن إعادة هيكلة قطاع المصارف، وعن المساعدات الخارجية، وعن خطط الإصلاح، لكن نادراً ما نتوقف عند سؤال بسيط: كيف يمكن لأيّ اقتصاد أن ينهض إن لم يكن قادراً على نقل بضاعته بكفاءة، وربط منتجاته بأسواقه، وتأمين انسياب موثوق للسلع والخدمات؟

ليست الخدمات اللوجستية مجرد تفصيل تقني، إنما هي عصب الاقتصاد، تماماً كما أنّ الكهرباء شريان الصناعة، والاتصالات شريان المعرفة. ومن دونها، تبقى كل القطاعات الأخرى مشلولة، مهما وُضعت خطط أو رُسمت رؤى.

الجنوب: فرصة وطنية للتوازن والنهوض
لطالما تركّزت المشاريع الكبرى في العاصمة ومحيطها. واليوم، حين نطرح إنشاء أكبر مركز للخدمات اللوجستية والتوزيع في تِبنا في جنوب لبنان، فإننا لا نطرح مشروعاً محليّاً فحسب، بل خطوة وطنية لإعادة توزيع الفرص وكسر مركزية التنمية. الاستثمار في الجنوب ليس صدفة، إنما هو إيمان بأن التعافي الاقتصادي يجب أن يبدأ من الأطراف.

ولعلّ تأسيس مركز "برو لوجستيكس" في تِبنا، بسعته التي تتجاوز الـ 50 ألف موقع تخزين، يشكّل المثال الحيّ على أنّ الجنوب قادر على احتضان مشاريع تضاهي أرقى المعايير العالمية. وهذا المركز ليس مستودعاً فحسب، بل منظومة متكاملة تخدم قطاع السلع الاستهلاكية السريعة (FMCG)، وتوفّر حلولاً لوجستية شاملة للشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء.

من المزارع إلى السوق: تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
يقوم أكثر من 90% من الاقتصاد اللبناني على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وهذه المؤسسات هي العمود الفقري للتوظيف والإنتاج، لكنها تبقى محصورة، في أغلب الأحيان، في أسواق ضيقة، بسبب ضعف شبكات النقل والتوزيع. فماذا يعني أن يمتلك الجنوب مركزاً لوجستياً عصرياً؟

يعني أن المزارع في مرجعيون أو صور يمكن أن تصل منتجاته الطازجة إلى بيروت أو طرابلس أو حتى الخليج بوقت أقلّ وكلفة أقل؛ ويعني أيضاً أن المتجر الصغير لا يخسر عملاءه بسبب انقطاع البضاعة أو غلاء النقل. بكلمات أخرى: اللوجستيات الحديثة هي الجسر الذي يربط الحلم المحليّ بالسوق الوطنية والعالمية.

 

رامي بيطار، الرئيس التنفيذي لشركة برو لوجستيكس - لبنان
رامي بيطار، الرئيس التنفيذي لشركة برو لوجستيكس - لبنان

 

الثقة الدولية تبدأ من سلاسل الإمداد
الثقة المفقودة هي أكبر تحدٍّ أمام لبنان اليوم. فقد انسحب عدد كبير من العلامات التجارية العالمية، ليس بسبب الأزمة المالية وحدها، بل لأنّ لبنان لم يعد قادراً على ضمان استقرار خدماته اللوجستية. 

في المقابل، أثبتت تجارب دول عديدة أن الاستثمار في البنية التحتية اللوجستية يغيّر الصورة بالكامل. فالمغرب مثلاً، حين استثمر في موانئ ومراكز توزيع حديثة، استطاع أن يجذب كبار الشركات الأوروبية إلى طنجة. وتركيا حين طوّرت شبكة لوجستية تربط آسيا بأوروبا، تحوّلت إلى لاعب أساسيّ في التجارة العالمية. 

اليوم، يبرهن وجود مرافق متطورة مثل المركز شبه المؤتمت لبرو لوجستيكس في الجنوب أنّ لبنان قادر على تقديم نموذج عصري لإدارة سلاسل التوريد. هذه القدرة على الجمع ما بين التكنولوجيا والكفاءة والموقع الاستراتيجي هي ما يعيد بناء ثقة العلامات العالمية في السوق اللبنانية.

الكلفة والأمن الغذائي: معركة كل بيت
يعرف كل لبناني اليوم أن فاتورة الغذاء تشكّل العبء الأكبر على ميزانيته الشهرية. وما لا يعرفه كثيرون هو أنّ جزءاً كبيراً من هذه الفاتورة سببه هدر غير ضروريّ: بضائع تتلف في المخازن بسبب سوء التخزين، وشاحنات تتأخر على الطرقات، وبضائع ترتفع كلفتها لأن سلسلة التوريد غير فعّالة.

تشير تقارير البنك الدولي إلى أن تحسين كفاءة الخدمات اللوجستية يمكن أن يخفّض أسعار السلع الأساسية بنسبة تصل إلى 15–20%. وهذا الرقم وحده كفيل بأن يبيّن أنّ الأمن الغذائي في لبنان يبدأ من تحسين قطاع الخدمات اللوجستية، وليس من المساعدات العينية الموقتة.

في هذا السياق، يوفّر مركز "برو لوجستيكس" نموذجاً عملياً لكيفية خفض الكلفة من خلال إدارة سلسلة إمداد فعّالة تقلّل من الهدر وتؤمّن انسيابية تدعم الأمن الغذائي.

التكنولوجيا والاستدامة: المستقبل لن ينتظرنا
لا يمكن أن نواجه تحدّيات اليوم بأدوات الأمس. فاللوجستيات الحديثة تقوم على الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالطلب، وعلى الروبوتات في إدارة المخازن، وعلى المركبات الكهربائية في النقل، وعلى الطاقة الشمسية في التشغيل. 

هذه ليست كماليات، إنما هي حلول عملية لتخفيض الكلفة وحماية البيئة. في بلد يعاني من أزمة طاقة متواصلة، لا يعتبر تطوير مركز لوجستي يعمل على الطاقة المتجددة مجرد استثمار ذكيّ فحسب، بل يعدّ جزءاً لا يتجزأ من الحل.

وقد بدأنا نشهد تطبيق هذه المفاهيم فعلياً في لبنان. فمركز "برو لوجستيكس" في تِبنا يعتمد على الأتمتة الجزئية، والذكاء الاصطناعي في إدارة المخزون، ويخطو خطوات عملية في مجال الاستدامة من خلال الاعتماد على الطاقة الشمسية واستخدام المركبات الكهربائية. وهذا يثبت أنّ التكنولوجيا المتقدمة لم تعد مجرد طموح بعيد، بل باتت جزءاً من الحلول التي يمكن تطبيقها اليوم.

نحو مشروع وطني للتعافي
إذا أردنا أن نُعيد إطلاق عجلة الاقتصاد، فعلينا أن نتعامل مع قطاع الخدمات اللوجستية كبنية تحتية وطنية، لا تقل شأناً عن الكهرباء والمياه. فنحن بحاجة إلى رؤية شاملة، تُشرك القطاع الخاص والعام، وتمنح الحوافز للاستثمار في شبكات توزيع عصرية تربط كل لبنان ببعضه، وتربطه بالعالم.

كلمة أخيرة
إنّ تجربة "برو لوجستيكس" في الجنوب رسالة مفادها أنّ الاستثمار في قطاع الخدمات اللوجستية ليس مشروعاً قطاعياً ضيقاً، إنما هو رهان على مستقبل لبنان كله. وهذه ليست مسؤولية الحكومة وحدها، ولا القطاع الخاص وحده، بل مسؤولية وطنية مشتركة. 

لا يكمن سرّ النهضة الاقتصادية في الأرقام المالية وحدها، بل في تطوير البنية التحتية لأحد أكثر القطاعات التي تحرّك الأسواق وتسرّع النمو: قطاع الخدمات اللوجستية.

 

 

*الرئيس التنفيذي لشركة "برو لوجستيكس"