طاقة المكان… حين تتكلّم الجدران ويهمس الصمت

د. نضال العنداري
في عالمٍ تفيض فيه الضوضاء الخارجية، غالبًا ما نهمل تلك اللغة الخفية التي تتكلم بها الأمكنة، وكأن الجدران تملك ذاكرة، والهواء يحمل أثر من مضى، والزوايا تخبّئ مشاعر لا تُرى. هذه ليست خرافة ولا شعوذة، بل علمٌ روحي وتجريبي يُعرف اليوم بـ "طاقة المكان" أو الـ"فيض المجالي. "(Field Energy). ، هو علم قديم–حديث، يمتزج فيه الملموس باللامرئي، والعقل بالحسّ، ليكشف لنا كيف يؤثر المكان في مزاجنا، صحتنا، قراراتنا، وعلاقاتنا… دون أن ننطق بكلمة.
وهكذا، حين ندخل بيتًا لأول مرة ونشعر بدفء غامض أو انقباض لا تفسير له، فنحن لا نتخيّل، بل نُصغي إلى ذاكرة الحقل التي تراكمت فيه؛ فالمكان يحتفظ بكل نية، وكل دمعة، وكل فرح مرّ به، كأنّه إسفنجة روحية تمتص الطيف العاطفي لمن يسكنه، ثم تعكسه على الداخلين بعدهم. لذلك لا عجب أن نرى بعض البيوت تُمرض ساكنيها بصمت، بينما أخرى تُزهر فيها الأرواح. فالمكان ليس حيّزًا صامتًا بل كائنٌ ينبض بتردّد، يتحاور مع ذبذباتنا الداخلية، ويشاركنا تشكيل واقعنا من حيث لا ندري.
المكان ليس خاملاً… بل هو كائن حيّ
المكان ليس صندوقًا مغلقًا نأوي إليه، بل هو حقل طاقي تفاعلي، يختزن الذبذبات التي مرّت فيه: ضحكات القاطنين، آلامهم، نواياهم، أحلامهم المؤجلة. لذلك حين ندخل مكانًا جديدًا ونشعر بالراحة أو النفور دون تفسير منطقي، فإننا في الحقيقة نستقبل إشارات من هذا الحقل الخفي. فكل جدار، وكل زاوية، وكل قطعة أثاث، تحتفظ بأثر من استخدمها، وتبث ذبذباتها لكل من يدخل بعده. وهذا ما تفسّره علوم مثل "الفنغ شوي" الصينية، و"الفيزياء الحيوية للمجال الطاقي" في الغرب، وحتى في التصوّف الإسلامي حيث يُقال إن للبيوت أنفاسًا، وإن الأماكن الصالحة تُطهّر القلب.
كيف نلتقط طاقة المكان؟
الطاقة لا تُرى ولكن تُستشعر. بعض الناس يملكون حساسية عالية لما حولهم، فيُصابون بالضيق دون مبرّر عند دخولهم أماكن معيّنة، بينما يشعرون بسلام عميق في أماكن أخرى. هذه الحاسة يمكن تطويرها عبر:
1.الهدوء الداخلي: فكلما كنت أكثر تصالحًا مع نفسك، كنت أدقّ في التقاط الترددات الخفية.
2.الملاحظة الدقيقة: راقب كيف يتغير مزاجك في غرفة عن أخرى، أو في مقهى معيّن، أو عند الانتقال من بيت إلى بيت.
3.الإصغاء للمكان: دع نفسك "تسكن" في اللحظة، وكن متنبّهًا لأي شعور صاعد فيك، حتى لو بدا عابرًا.
طاقة الأماكن: بين التنظيف والترميم
حين تتراكم الطاقات السلبية في المكان، تبدأ بالتأثير على من يعيش فيه: تعب متواصل، اضطرابات نوم، سوء تفاهم دائم، خمول، أو حتى أمراض غامضة. لذلك فإن تنظيف طاقة المكان لا يقل أهمية عن تنظيفه الفيزيائي. ومن أبرز الطرق لذلك:
1.البخور والماء والملح: أدوات استخدمتها الحضارات منذ آلاف السنين لطرد الطاقات الثقيلة.
2.الترتيب والنظام: الفوضى تعيق تدفق الطاقة وتحبسها. غرفة مرتّبة تساوي عقلًا صافياً.
3.الإضاءة الطبيعية: ضوء الشمس يُنقّي الأمكنة ويعيد التوازن.
4.النباتات والموسيقى: كائنات حيّة تُعيد إحياء الحقل الطاقي وتضبط تردده.
الذاكرة الجماعية للمكان
هناك أماكن تُبنى على أنقاض المعاناة: سجون قديمة، مستشفيات مهجورة، أو منازل شهدت مآسي صامتة. هذه الأماكن تحتفظ بما يُعرف بـ بصمة الألم، وقد تكون جميلة من الخارج، لكنها تستنزف الداخل. وعلى العكس، هناك أماكن كانت مساجد، أديرة، مجالس علم أو مناجاة، لا تزال تبثّ "نورًا" حتى بعد أن تغيّرت وظيفتها. وهذا ما يفسّر سرّ الأماكن المقدسة، ولماذا نشعر فيها بخشوع داخلي دون سبب ظاهري.
السكن ليس فقط في البيت… بل في الطاقة التي تسكنه
أن تختار مكانًا لتعيش فيه، يعني أن تختار طاقتك القادمة. ليس كافيًا أن تسأل عن عدد الغرف والسعر، بل اسأل عن الإحساس الذي يمنحه لك المكان. هل يتناغم مع قلبك؟ هل تشعر فيه بالأمان؟ هل يجعلك أكثر وعيًا أم أكثر توترًا؟ لأنك إن سكّنت جسدك في مكان مريض، فإن روحك قد تختنق دون أن تدري.
فالسكن الحقيقي لا يُقاس بالمتر المربع، بل بمقدار السكينة التي يبعثها في داخلك، وبالقدرة التي يمنحك إيّاها لتكون أقرب إلى ذاتك. قد يكون القصر خاليًا من الروح، وقد تكون الغرفة الصغيرة فردوسًا إذا سكنتْها طاقة حب، ونوايا طيّبة، وأشياء لها معنى. وما بين الجدران، هنالك ما هو أعمق من الديكور والإضاءة والأثاث؛ هناك "الاهتزاز الأول" الذي يحدّد كيف ستستيقظ كل صباح، وكيف ستحلم كل ليلة. فإن كنت تريد بيتًا يريح جسدك فقط، فابحث عن الراحة؛ أما إن كنت تبتغي بيتًا يعتني بروحك، فابحث عن النبض الذي يشبهك.
الوعي الجديد: هندسة المكان كمرآة للنفس
اليوم، لم تعد العمارة مجرّد فنّ بناء، بل صارت علمًا للعافية. في الطب البديل، في علم الطاقة، وفي العلاج الروحي، بات يُنصح كل شخص بأن يُعدّل مكان سكنه بما يتوافق مع نواياه. غرفة التأمل لا توضع في مكان الضجيج، وزاوية العمل تحتاج إضاءة مركّزة، وغرفة النوم لا يجب أن تحوي مرايا أمام السرير أو زوايا حادة موجّهة إلى الجسد. إننا نعيش داخل بيئة ذبذبية، وكلما عشنا بوعي، ازدادت بيئتنا دعمًا لنا.
حين يصبح المكان شريكًا في الشفاء
في النهاية، علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالأمكنة. لا كديكور أو عنوان، بل ككائنٍ حيّ يعيش معنا، يسمعنا، يؤثر فينا ويتأثر بنا. والمكان الذي نطهره، نحبه، ونملأه بالسكينة، سيردّ لنا الجميل. فحين يكون المكان سليمًا، يصبح صامتًا… لكنه يُحدث فينا أجمل التغييرات.
إن المكان، حين نعامله كروحٍ لا كجدران، يغدو شريكًا في مسيرتنا اليومية؛ يربّت على تعبنا حين نعود، ويحتضن تأملاتنا في لحظات الصمت، ويصبح مرآةً خفية تعكس حالتنا الداخلية. فكل زهرة نزرعها، وكل شمعة نضيئها، وكل ركن نخصصه للسكينة، هو رسالة نوجّهها إلى طاقته تقول: "أريد أن أشفى هنا، أريد أن أنمو". والمكان الذي تُكرّس فيه النوايا الطيّبة يتحوّل إلى حاضنة للسلام، ومحراب صغير للعودة إلى الذات… لا يطلب شيئًا، لكنه يعطي الكثير.