خطة ترامب بين فخ نتنياهو ودهاء حماس

المحامي خالد عجاج
في لحظات التحولات الكبرى، يتقاطع علم السياسة مع فن الحرب في نقطة دقيقة، كيف يمكن تحقيق الممكن ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان؟ هذه ليست مجرد صياغة نظرية بل قاعدة عملية يتبعها كل طرف يسعى للبقاء والتأثير. فالاكتناز التدريجي للقوة ومراكمة المكاسب والبحث عن الثغرات في الطريق المسدود واستغلال كل باب يفتح أو فرصة تسنح، هذه هي عناصر اللعبة الاستراتيجية.
في السياسة كما في الحرب، لا يكفي أن تمتلك السلاح، بل أن تعرف متى وكيف تستخدمه، هذا ما فعلته حركة حماس في تعاملها مع خطة ترامب الأخيرة، إذ نجحت في تحويل فخ سياسي معقد إلى مساحة جديدة للمناورة، لتثبت أن المقاومة ليست فقط بندقية في الميدان، بل عقل يعرف كيف يحمي الثوابت ويقلب الطاولة على خصومه.
حين طرح ترامب مقترحه، كان بنيامين نتنياهو يظن أنه أحكم الطوق على المقاومة، فبنود الخطة جاءت مجحفة ومنحازة بالكامل لتل أبيب، فتصور أن قبولها سيكون انتصاراً سياسياً يضاف الى رصيده الداخلي، وأن رفضها سيمنحه مبرراً جديداً لاستئناف الحرب مدعوماً من واشنطن وبعض العواصم العربية. اعتقد أنه حشر حماس في الزاوية؛ إن قبلت استسلمت، وإن رفضت فهي من تتحمل مسؤولية استمرار الحرب ومعاناة المدنيين.
لكن الرد جاء على نحو قلب التوقعات، بيان حماس تجاوز سقف الترقب، إذ لم يتورط في الرفض الانفعالي ولم يقدم تنازلات مجانية. حولت الحركة "إنذار الاستسلام" إلى إعلان مبادئ تفاوضي، بدأ من النقطة التي تشغل العالم بأسره؛ وقف الحرب وتبادل الأسرى دفعة واحدة. هذا الموقف نقل مركز الضغط من المقاومة إلى إسرائيل نفسها، إذ بدا نتنياهو كمن يرفض السلام بدلاً من أن يفرضه.
الأكثر ذكاءً أن البيان منح ترامب ما يريد سماعه؛ إشادة بجهوده ورغبة في التفاوض. فأعلن الرئيس الأميركي على الفور نجاح خطته وطالب تل أبيب بوقف القتال، في مشهد غير مألوف في السياسة الأميركية تجاه الصراع. بذلك نجحت حماس في تحييد واشنطن مؤقتاً، وأربكت الاحتلال وخلقت شرخاً في السردية التي تتبناها إسرائيل أمام العالم.
الرد لم يتضمن موافقة مطلقة ولا رفضاً صريحاً. جُزئت البنود بذكاء تفاوضي لافت؛ موافقة على تبادل الأسرى وتسليم الحكم إلى حكومة فلسطينية توافقية، وهما موقفان سبق للحركة أن أعلنت عنهما سابقاً، مقابل إحالة القضايا الجوهرية مثل مستقبل غزة والسلاح إلى مرحلة ما بعد وقف الحرب، ضمن إطار وطني جامع يستند إلى الشرعية الدولية. بهذه الصيغة تحول فخ نتنياهو إلى شرك له ولترامب معاً، فكل تراجع إسرائيلي عن المسار الجديد سيفسر دولياً كتعنت، وكل اعتراض أميركي سيبدو تراجعاً عن مبادرة أعلن عنها ترامب نفسه نجاحها.
النتيجة أن نتنياهو وجد نفسه في مواجهة ضغط داخلي متصاعد من عائلات الأسرى والمعارضة، الذين رأوا في رد حماس فرصة لإنهاء المأساة. كما وجد نفسه أمام رئيس أميركي أعلن للعالم أن خطته أنجزت اختراقاً. لقد انقلب المشهد، من ظن أنه نصب الفخ وجد نفسه داخله.
ما فعلته حماس لم يكن مجرد رد سياسي، بل إعادة تموضع استراتيجية. وضعت وقف الحرب وتحسين معيشة سكان غزة في مقدمة الأولويات، وربطت أي نقاش حول مستقبل القطاع بمشروع وطني شامل، ما أكسبها دعماً داخلياً واسعاً، وسمح بالظهور كقوة مسؤولة وليست متمردة. وفي الوقت نفسه، أعطت إشارات ذكية للمجتمع الدولي عبر استدعاء القوانين والقرارات الأممية، لتؤكد أنها تتحرك ضمن منطق الشرعية الدولية لا خارجها.
البيان الأخير يثبت أن المقاومة لم تدهش العالم في ساحات القتال فقط، بل أوقفته على قدميه في ميدان السياسة ايضاً. لقد أثبتت أن الكلمة حين تدار بذكاء يمكن أن تكون أداة مقاومة لا تقل أثراً عن البندقية. فالثبات على المبدأ لا يعني الجمود، والمرونة لا تعني التنازل. هكذا التقت قوة الميدان مع عقل السياسة في لحظة واحدة، وبهذا التوازن صنعت المقاومة مشهداً جديداً جعل خصومها يواجهون مأزقاً سياسياً لم يحسبوا له حساباً. ويبقى السؤال الذي سيُختبر في الأيام المقبلة؛ هل سيلتقط العرب والوسطاء خيط المناورة الذكي هذا لوقف الحرب، أم سيتركون نتنياهو يهرب مجدداً من فخ صنعته يداه؟
المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الاعلامية