منبر 07-10-2025 | 00:53

الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد اللعبة... والتعليم مطالب بالتجدد

إدماج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية لم يعد خياراً نظرياً، بل ضرورة عملية تفرضها التحولات الرقمية المتسارعة...
الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد اللعبة... والتعليم مطالب بالتجدد
نحو تعليم أكثر مرونة وابتكاراً. (أ ف ب)
Smaller Bigger

يوسف ملك*

منذ انخراطي في المجال التكنولوجي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لم أتوقف يوماً عن الدعوة إلى مراجعة جذرية لأسس التعليم. فقد أدركت مبكراً محدودية النموذج التقليدي القائم على التلقين العمودي، وناديت بضرورة الانتقال إلى مقاربة تضع إدارة التعلم في صلب العملية التربوية.

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر، خلال مشاركتي في فعاليات المؤتمر العربي الثاني لمديري المدارس بعنوان "آفاق جديدة في الإدارة المدرسية" في بيروت في تموز/ يوليو عام 1991 والذي شهد مشاركة واسعة من دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، أكدت  أهمية إعادة التفكير في دور المدرسة في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة.

 

لتطوير مهارات التوجيه والإرشاد… (أ ف ب)
لتطوير مهارات التوجيه والإرشاد… (أ ف ب)

 

ففي تلك المرحلة، بدأت مراكز التسلية بتقديم خدمة الإنترنت للتلامذة الذين كانوا محرومين منها في مدارسهم، مما دفعهم إلى ارتياد هذه المراكز لإجراء الأبحاث المطلوبة منهم. وقد ساهم هذا الواقع في تعزيز معرفتهم بشكل عفوي، من خلال اطلاعهم على مصادر معرفية إضافية خارج المنهاج الدراسي.

وقد حذّرتُ حينها من استمرار هذا التوجه من دون تدخل تربوي، حتى لا يصبح من المقبول القول إن "مراكز التسلية أصبحت تعلم، والمدارس أصبحت تسلي". لذا، فإن إعادة تعريف دور المدرسة بات ضرورة ملحة، لضمان أن تبقى المؤسسة التعليمية في صلب عملية بناء المعرفة، لا أن تتراجع أمام البدائل غير المنظمة.

اليوم، بات هذا التحول أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في ظل اجتياح التكنولوجيا الرقمية للبيئات التعليمية، وظهور الذكاء الاصطناعي الذي يعيد تشكيل المفاهيم المعرفية والبيداغوجية لدى المعلمين والمتعلمين على حدٍّ سواء.

لم يعد الهدف تلقين معلومات جامدة، بل بات المطلوب إعداد عقول قادرة على التفكير، والإبداع، واتخاذ القرار بوعي ومسؤولية. المطلوب هو تنمية قدرة المتعلم على بناء المعرفة، مساءلتها، وتكييفها مع واقعه الخاص. ويمكن ترجمة هذا التوجه التربوي إلى ممارسات حديثة وفعّالة، منها:

-التعلم بالمشروع: حيث يُطلب من الطلاب معالجة مشكلات واقعية باستخدام مهارات متعددة. فبدلاً من شرح قوانين الفيزياء نظرياً، يمكن تكليفهم تصميم نموذج تقني كـ"توربين هوائي صغير"، ما يتيح لهم اكتشاف المبادئ الفيزيائية بأنفسهم.

-الصف المعكوس: حيث تُنقل عملية اكتساب المعرفة إلى خارج الصف (عبر فيديوهات أو قراءات)، ويُخصص وقت الحضور للنقاش، التفكير النقدي، وحل المشكلات. هذه المنهجية تعزز الاستقلالية وتدفع نحو التفكير التحليلي.

-بيداغوجيا البحث: حيث يتحول الطالب إلى باحث عن المعرفة، لا متلقٍ لها. يُرشد إلى صياغة الأسئلة، جمع البيانات، وتحليل النتائج، ما يعزز حسّه النقدي ويعمّق فهمه.

-الاستخدام الواعي للذكاء الاصطناعي: ليس كبديل للمعلم، بل كأداة استكشافية. يمكن للطلاب التفاعل مع نماذج الذكاء الاصطناعي لاقتراح فرضيات، ثم يُطلب منهم التحقق منها عبر البحث، ما ينمّي لديهم مهارات التحليل والتقييم.

هذه المقاربات تعيد الإنسان إلى قلب العملية التعليمية، كمبدع وفاعل نقدي. وهي تشكّل استجابة واقعية للتحديات التي تفرضها أتمتة المعرفة وتنامي دور الأنظمة الذكية التي تميل إلى تبسيط التفكير وتوحيد الإجابات.

لقد آن الأوان للانتقال من مرحلة "التعليم" إلى مرحلة "التعلم بالإدارة الذاتية"، بحيث يصبح الطالب مسؤولًا عن مسار تعلمه، لا مجرد متلقٍ للمعرفة. ولتحقيق هذه النقلة النوعية، يجب أولاً تطوير المناهج.

 

إن إدماج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية لم يعد خياراً نظرياً، بل ضرورة عملية تفرضها التحولات الرقمية المتسارعة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم محتوى تعليمي تفاعلي يعتمد على أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل أداء الطلاب وتقديم تغذية راجعة فورية، وتخصيص المسارات التعليمية وفقاً لقدراتهم الفردية.

 

كما يمكن للمعلمين استخدام تطبيقات ذكية لتوليد أسئلة تكيفية، أو محاكاة تجارب علمية افتراضية، مما يعزز من فهم الطلاب ويحفزهم على التعلم الذاتي. إن هذا الدمج لا يقتصر على التقنية، بل يتطلب إعادة تصور دور المعلم والمحتوى، ليصبح التعليم أكثر مرونة وابتكاراً.

 

بذلك يجب أيضاً إعادة بناء برامج إعداد الأساتذة وتدريبهم لتواكب هذا التحول. وتشمل هذه البرامج محاور أساسية عدة: أولاً، التدريب التربوي على تصميم بيئات تعلم مرنة تُحفّز التفكير النقدي، وتُشجع على التعلم الذاتي والتعاوني. ثانياً، التدريب التقني على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم، مثل أنظمة تحليل بيانات الطلاب، وتطبيقات توليد المحتوى التكيفي، ومنصات المحاكاة التفاعلية.

 

ثالثاً، تطوير مهارات التوجيه والإرشاد، بحيث يُصبح الأستاذ قادراً على دعم الطالب في بناء مساره التعليمي الخاص، وتقديم تغذية راجعة مخصصة تعزز من استقلاليته. وأخيراً، تضمين البعد الأخلاقي في استخدام التكنولوجيا، لضمان دمج الأدوات الرقمية بشكل مسؤول وآمن. إن إعداد الأستاذ بهذه الطريقة لا يُعيد تعريف دوره فحسب، بل يُمكّنه من قيادة عملية تعليمية متجددة، تُنمي لدى الطالب القدرة على التفكير المستقل، وصناعة المعنى في عالم سريع التحوّل.

 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 9:32:00 AM
طقس الأيام المقبلة في لبنان