ٱخرُجوا من بينِهم، واعتزلوا"

الاب ايلي قنبر
1. "كَما تُريدونَ أَن يَفعَلَ ٱلنّاسُ بِكُم، كَذَلِكَ ٱفعَلوا أَنتُم أَيضاً بِهِم"
القاعدة الذهبيّة للتعامل بين الناس تكمُن في هذه الصيغة التي طرحَها يسوع الناصريّ يوماً: "كَما تُريدونَ أَن يَفعَلَ ٱلنّاسُ بِكُم، كَذَلِكَ ٱفعَلوا أَنتُم أَيضاً بِهِم". بينما يَعرض لنا الواقع، غالباً، صِيَغاً عُنفيّة وقهريّة قائمة على العداوة والكراهيّة والحِقد والاستغلال والاستعمار. صِيغٌ أثبتَت، على مرِّ الأجيال، أنّها فاشلة ومُدَمِّرة للإنسان في كلٍّ مِنَّا. وعلى رغم ذلك يلجأ كثيرون إليها.
آخِر تلك الصِيَغ العُنفيّة والقَهرِيّة صيغة الـ"21 بنداً" التي طرَحها أخيراً مِستِر ترامپ لِغزّة. وهي ذات بُعدٍ اقتصاديٍ نفعيّ ليس إلَّا، على حساب أصحاب الأرض. على أن تكون غزّة "منطقة خالية من الإرهاب والتَطرّف، في مُقابل إعادة إعمارها وِفق مخطَّطات دقيقة". هل يكون الاستعمار احترم قاعدة يسوع الذهبيّة: حين يُصنِّف أصحاب الأرض "إرهابيِّين ومُتَطرِّفين" إذا قاوموا المحتَلّ؛ ويشترط إعادة الإعمار"وِفق مخطَّطاتٍ دقيقة" تُراعي مصالح المُستعمِر؛ ويَفرِض عليهم مجلِسَ انتدابٍ جديداً ويستغلّ أرضهم ومواردهم وثرواتهم؛ ويربط انسحابَ المُحتَلّ بـ"نزع سلاح المقاومة"، أي إخضاع صاحب الأرض. وهذا يعني في ما يعني تطهيراً شاملاً يَقضي على كلِّ حَيٍّ في المنطقة كما جرى للمُقاوَمة المُسلمة في "سِرِبرِنيتسا" بالبُوسْنَة على يَد الصِربيّين "المسيحيِّين" تحت نظَر الأُمم المتَّحدة.
2. " أَحِبّوا أَعداءَكُم"
وهذه قاعدة ذهبيّة أُخرى من يسوع الناصريّ: "أحِبّوا أعداءكم"، لأنّه "إِن أَحبَبتُمُ ٱلَّذينَ يُحِبّونَكُم فَأَيُّ فَضلٍ لَكُم؟". كيف يفكّر نتِن-ياهو، وهل يرى في الآخَر عبر العالم أختاً / أخاً؟ هل تتحرّك أحشاؤُه مثل يسوع-السامريّ الصالح أمام بَلِيّة أُختِه / أخيه؟ ونحن، هل نَقبل أن نتَماهي مع نتِن-ياهو أو مع ضحاياه؟ كيف نُواجه آلام الآخَرين: أبالّلامُبالاة-مرَض العَصر التي حذَّرنا منها البابا فرنسيس؟ أبالجَلْد مع الجلَّاد أَم بالتعاطُف والانحناء على مِثال يسوع-السامريّ الصالح؟ هل"يُواجه (واحدُنا) الألم بجرأة"... مُقَدِّماً "الرجاء الذي... هو رؤية قائمة على العلاقة"؟ هل نجِد في"الرجاء قوّة تجعلنا شهوداً للانسانيّة في عالمٍ يَشيح بوَجهه عن الضعفاء والجرحى والجائعين"؟.
يُذَكِّرنا الأب داڤيد نويهاس بِما أَسَرَّ به الرئيس العام لليسوعيِّين في بوغوتّا: "إنّ الجامعة اليسوعيّة تتَحرّك نحو الهوامش، حيث تلتقي المُستَبعَدين، وتفتح أبوابها لهم، ليُصبحوا مصدَر حياة وتَجديد للمجتمع". هل هذا ما نشهده حقًّا؟
وأضاف:"الجامعة اليسوعيّة مدعوّة لأن تكون حاضرة في العالم، تُتابع ما يَحدث، وتَبني تضامناً مع المُهمَّشين، وتَنطق بالحقّ إنطلاقاً من الإصغاء إلى صرَخات الجَرحى". خلال مشاركتي السنة الفائتة في بعض مناسَباتها، لم أسمع كلاماً تضامنياً مع غزّة ولا "إصغاءً لجَرحى" الجنوب اللُّبنانيّ. ويُردِف الرئيس: الجامعة اليسوعيّة "هي فَضاءٌ لِلحوار وللحريّة وللبحث عن طرُق جديدة لِلتحوُّل الاجتماعيّ، حيث يلتقي البحث الأكاديميّ بالرسالة الإنجيليّة للتحرير". كيف عَمِلَت فعلاً على التحوُّل الاجتماعيّ وعلى التحرير، وأين ومع مَن؟
4. "ٱخرُجوا مِن بَينِهِم وَٱعتَزِلوا"
في توجُّهِه إلى القورنثيِّين، يقول الرسول بولس إنّهم "هَيكَلُ ٱللهِ ٱلحَيِّ. وبِذا يُغادِر المؤمن/ة بيئةً لا ينتمي إليها، بيئة فيها عدواة للاخَر المُختلِف وحقدٌ وكراهيّة ومحاوَلات حثيثة للقضاء عليه، بيئة لا مفرَّ له من الخُروج منها وعليها، إلى عالمٍ من الأفكار والسلوكيّات التي تتَّفق وإيمانه بـ "الإلَه-الحُبّ" الـ"رحيم"والـ"مُنعِمٌ عَلى غَيرِ ٱلشّاكِرينَ وَٱلأَشرار"، صحيح؟
"ٱخرُجوا مِن بَينِهِم وَٱعتَزِلوا" أو التحوُّل العميق، لا يحصل بين ليلةٍ وضُحاها، ولا بكَبسةِ زرٍّ، ولا بقَول"أبْرَا كدَبْرا". بل يتمّ على مراحل مُتعاقبة: تبدأ بالمثُل التي نضع نُصْبَ أعيُننا وبها يتعلّق كَياننا. المشوار يتطلّب التَمييز بين الأفكار التي تخطر على بالنا والتي تتعرَّض للفلْتَرة، فنتبنّى هذه او تلك منها تأثُّراً بمشاعرَما، لِتكون سيرتنا بحَسَبها صالحة أو تتعرَّض لخلَلٍ... بعدها تأتي مرحلة التصميم والقرار، لتَدخل تلك المثُل والأفكار في صميم عاداتنا والتزاماتنا، وتصير أُسلوب حياة يُظهِر التغيير أو التحَوُّل الحاصل فينا ولدَينا. على أن يكون خَيارنا التفضيليّ للـ"مِيتانُويَا" أو التحوُّل العميق الذي يدعونا إليه يسوع: "تُوبوا، فقد اقترب ملكوت السموات". وقد بدأ يظهر تغيير ما في المُجتمعات الغربيّة وبعض العربيّة ولدى فريق من اللُبنانيِّين إزاء الظلم الّلاحِق بالفلسطينيِّين وأهل جنوب لبنان وأوكرانيا وأفريقيا.
إذَن، "لا بدّ من التصعيد في أسلوب النضال: تظاهرات، عَرائض، مُقاطَعة، عدَم امتثال، فرض الذات. لن ننتظر صدور الأوامر من عَلُ. فَلْنَقتَحِم. نحن أمام مُنعَطَف تاريخيّ يُشير الى أنّ القوّة الحقيقيّة هي في الشعوب. إنّه درسٌ يجب تعميمه. يجب فَضح لاإنسانيّة الذين يحكموننا. كان لا بدّ من عدَم الامتثال، الضرب بقوّة". أسَّاتا شاكُور صرَّحَت قبَيل اغتيالها: "لا أحد عبر العالم والتاريخ نال حُرِّيّته بالتوَجُّه إلى الحسّ الأخلاقيّ لِقاهِريه وحسْب".
نعم، "الحريّة والعدالة ليستا هدايا تِنزل من علُ. يجب "اغتصابها" (متّى 11: 12). النظام يُريد أن يُوهِمنا بأننّا معزولون وبِلا قُدرة. لقد حان الوقت لقَول لآ. لتَحدّي الإباديِّين. معاً، لا نكون ضحايا. لا نكُون متفرِّجين، نحن صانعو التاريخ". هلَّا فهِمنا وأرَدنا؟