جدلية الدائرة السادسة عشرة

المحامي أنطوني الخوري
رفض رئيس المجلس النيابي نبيه بري إدراج اقتراح قانون معجّل مكرّر يهدف إلى تعديل قانون الانتخاب الرقم 44/2017، ولا سيّما المادتين 112 و122 منه، المتعلقتين بإنشاء الدائرة السادسة عشرة المخصّصة للبنانيين غير المقيمين، ضارباً عرض الحائط أحكام النظام الداخلي لمجلس النواب والأعراف البرلمانية. وذلك على رغم توقيع 61 نائباً على اقتراح قانون في هذا الاتجاه. وقد تعالت في الآونة الأخيرة أصوات كثيرة من الإغتراب اللبناني تطالب بهذا التعديل عشية فتح باب التسجيل للإقتراع في الخارج، معتبرةً أنّ هناك محاولة متعمّدة من بعض القوى السياسيّة (حزب الله، حركة أمل، والتيار الوطني الحرّ) لكمّ أصواتها والتقليل من أثرها، بعدما نجحت نتائج الإنتخابات السابقة في تغيير موازين القوى.
وانطلاقًا من ذلك، يصبح من المفيد التطرّق إلى هذه المواد من زاويتين: الشكل والمضمون.
أوّلًا: في الشكل
النائب بحسب الدستور اللبناني هو نائب الأمّة جمعاء (المادة 27 من الدستور)، أي أنّ مهمته تكمن في تمثيل جميع اللبنانيين من دون تمييز أو تفريق بين مقيم ومغترب. وعليه، فإنّ اللبنانيّين المنتشرين هم لبنانيون لهم الحقوق كاملة وعليهم الواجبات كاملة، ولا يجوز حصر تمثيلهم أو اختزاله بمقاعد محدودة، لأنّ هذا يُعتبر مخالفة لجوهر مبدأ المساواة الدستوري . فالدستور لم يفرّق يوماً بين مقيم ومغترب، كما أنّ القوانين الإنتخابية المتعاقبة لطالما اعتمدت دوائر النفوس مرجعيّة للإقتراع.
مع ذلك، برز اتجاه سياسي يرى أنّ تخصيص مقاعد للاغتراب يشكّل نوعاً من "التكريم" للجاليات اللبنانيّة، أو على الأقل أداة عَمَلية لتسهيل مشاركتهم بعيداً من إشكاليات التسجيل والدوائر الداخلية. في المقابل، هناك من اعتبر أنّ تخصيص ستة مقاعد فقط يَنتقص من حق الإنتشار، إذ أنّ المغتربين ليسوا في خانة ثانوية بل رافعة أساسية للإقتصاد الوطني، ويجب أن يظلّوا جزءاً من الدوائر الوطنية الكاملة ("انتخاب 128 نائباً").
وللإستفادة من التجارب المقارنة، يمكن الإشارة إلى فرنسا التي استحدثت 11 دائرة للمغتربين عام 2008 بموجب إصلاح دستوري قاده الرئيس نيكولا ساركوزي. لكنّ الدافع الأساسي آنذاك لم يكن ديموقراطياً بحتاً، بل سياسي وانتخابي، إذ كان يُفترض أنّ أصوات المغتربين تميل إلى اليمين. الأمر نفسه في إيطاليا حيث خُصّص 18 مقعداً للانتشار (وخصوصاً في أميركا الجنوبية وأوستراليا)، في خطوة لم تخل من حسابات حزبية. ومع ذلك، تظلّ معالجة قضايا المغتربين في هذه الدول محصورة بالسفارات والقنصليات، وليس بالنواب المنتخبين.
أما في لبنان، فالوضع مختلف جذرياً، فالانتشار اللبناني يبقى مرتبطاً يومياً بالداخل عبر التحويلات المالية، الروابط العائلية، والمشاركة السياسية الفعلية في القرى والبلدات، حيث يملك المغترب حق الاقتراع في دوائر نفوسه. وبالتالي، فإنّ استحداث دائرة منفصلة للمغتربين لا يضيف قيمة ديموقراطية حقيقية، بل يهدّد بزيادة تعقيد المشهد النيابي، وتضخيم برلمان هشّ أصلاً.
وفي هذا السياق، يُعارض الثنائي الشيعي ما يعرف شعبياً بـ"إنتخاب الـ128 نائباً"، بذريعة عدم تكافؤ الفرص، زاعماً أنّه لا يستطيع القيام بجولات انتخابية في الخارج أو تعيين مندوبين لمرشحيه، غير أنّ هذا الزعم مردود لأسباب عدة منها:
السبب الأول، الثنائي نفسه يؤيد انتخاب المغتربين لستة نواب. فإذا كان قادراً على تحفيز الناخبين في الخارج لدعم هؤلاء الستة، فكيف يُعجز عن القيام بالأمر نفسه على أساس انتخاب 128 نائباً؟ والواقع يشير إلى أنّ الكتلة الشعبية الكبرى لهذا الحزب، منتشرة في دول صديقة للنظام الإيراني، ما يجعل هذه الحجة غير مقنعة.
السبب الثاني، إذا كانت سياسات الثنائي وتدخله في شؤون دول أخرى قد أضرّت به وبقاعدته الشعبية، فما ذنب المغتربين اللبنانيين أن يدفعوا ثمن هذه السياسات بحرمانهم ممارسة حقهم في الاقتراع، مثلما يفعل المقيمون؟ فالواقع أنّ "حزب الله" نفسه تورط في أنشطة خارجية مشبوهة شملت تجارة المخدرات، التدخل العسكري والسياسي، وحتى العمليات الإرهابية.
وعليه، فإنّ القوانين يجب أن تُنصّ وفق المصلحة العامة، مع التمسك بالمبادئ الدستورية، ومجرّدة من أي اعتبار حزبي أو مناطقي أو طائفي ضيّق، حفاظاً على مبدأ موضوعية القانون وعموميته في التطبيق على الجميع.
ثانياً: في المضمون
يستند بعض المتمسكين بإنشاء الدائرة السادسة عشرة إلى المادة 124 من قانون الانتخاب الرقم 44/2017، التي تنص على أنّ "تُحدَّد دقائق تطبيق هذا القانون بمراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الداخلية والبلديات". إلا أنّ هذا الإستناد يشكّل إلتباساً قانونياً. فهناك مبدأ دستوري عام هو مبدأ التوازي في الصيغ، والذي يعني أنّ السلطة التي تسنّ قاعدة قانونية هي وحدها المخوّلة تعديلها أو إلغائها. وبما أنّ توزيع المقاعد النيابية على الطوائف ورسم الدوائر هو من اختصاص السلطة التشريعية حصراً (المادة 2 من القانون)، فلا يمكن للسلطة التنفيذية أن تعدّل أو تُنشئ دوائر جديدة بموجب مرسوم تطبيقي.
وقد أشار وزيرا الداخلية والخارجية إلى استحالة عملية في تطبيق المواد المتعلّقة بانتخاب اللبنانيين غير المقيمين في الخارج، سواء لأسباب لوجستية أو قانونية، مما يجعل تطبيق الدائرة السادسة عشرة مؤجلاً إلى حين معالجة هذه المعوقات تشريعياً.
إضافة إلى ذلك، يطرح النظام الطائفي المعتمد في لبنان إشكالية أخرى، فإذا جرى توزيع المقاعد الإغترابية على أساس القارات والطوائف، فكيف يمكن مثلاً أن يُلزم اللبنانيون في أميركا التصويت لمرشح ينتمي إلى طائفة محددة، أو أن تُربط قارة كاملة بتمثيل طائفة معينة؟ هل تصبح القارة الأميركية من حصّة المسيحيين؟ وإن أعطيَت للمسيحيين فإلى أي طائفة منهم؟ وتبعاً لأي منطق؟
الواضح أنّ الجدل الدائر ليس قانونياً أو دستورياً بحتاً، بل هو سياسي بامتياز. فالمعارضون لمشاركة المغتربين الكاملة في انتخاب 128 نائباً يخشون من تأثير أصواتهم على التوازنات الداخلية، خصوصاً أنّ نتائج الانتخابات الأخيرة أثبتت أنّ الانتشار قادر على قلب المعادلات. وفي المقابل، فإنّ اللبنانيين غير المقيمين يملكون حقاً طبيعياً ودستورياً في المشاركة السياسية من دون تمييز أو تقليص، أسوةً بالمقيمين.
إنّ الانتشار اللبناني، الذي كان ولا يزال صمّام أمان للبنان ورافعة اقتصاده، يجب أن يبقى جزءاً أصيلاً من العملية الديموقراطية، مع أمل أن تتحوّل مشاركته الانتخابية إلى حافز لعودته إلى الوطن والمساهمة في إعادة بنائه واستقراره.