المقص من أداةٍ لتصميم الجمال وتهذيب الشكل إلى أداةٍ للطائفية وقصّ المدن

أنس البريحي*
في منتصف تموز / يوليو الفائت، وبينما كانت أختي تسقي نباتاتها على الشرفة محاولة إنعاش ما ذبل منها، خيَّم ظلّ مقصٍّ ضخم فتح شفرتيه على وسعهما على المدينة, ومعه انفتحت أبواب الطائفية والشرور المترسخة في النفوس بفعل السياسة.
دخل هذا المقص باسم إرهاب قديم، تصلنا أخباره بين الحين والآخر، وقد اختبرناه عام 2018 عندما هاجم تنظيم "داعش" ريف السويداء.
اقتحم حياتنا محاطاً بالرشاشات والدبابات والقاذفات، ومعه جحافل من العقول الفارغة والسعيدة بالتحريض، دون أي تفكير أو محاكمة عقلية، غافلة عن بديهيّة أن البشر جميعهم سواسية في إنسانيتهم.
إنه مقصٌ، قسم سوريا إلى نصفين، لكنه هذه المرة لم يكن كناية عن شرخٍ طائفي دامٍ بين أبنائه، بل أداة حقيقية بأحجام مختلفة، يخفيها المقاتلون في جيوبهم وهم يشقّون الطريق إلى السويداء. جحافل من المغيَّبين، مغسولي الأدمغة، اندفعوا نحو الجنوب مردّدين صيحات طائفية وتكبيراتٍ يتردّد صداها في الأفق.
كان المقاتلون حريصين على حمل مقصاتهم بأشكال مختلفة صغيرة وكبيرة حتى تلك التي تستخدم في جز صوف الأغنام لتتحول إلى أدوات صمّاء تهدف إلى القتل والتشويه ورسم الخرائط والاتفاقيات الدولية.
لم تكن الفصائل والقوات الحكومية التي اقتحمت السويداء تجهل طبيعة المدينة أو رمزية الشارب وقصه، بل كانت تدرك تماماً معنى فعلتها وما تداعيات قص شوارب رجال وشيوخ المدينة.
في السويداء، كما الكثير من المناطق العربية، للشوارب معنى خاص. من يضع يده على شاربه يصبح موضع ثقة، ويُؤتمن على كل شيء. ما زال الناس يعيشون على المقايضة: "أحلف بشاربي أن أعيد لك ما أعرتني إياه"، فيطمئن الطرف الآخر لأنه يعرف أن مسك الشارب هو فكرة لعهد لا يُكسر.
من لا يعرف سكان السويداء، فهم سوريون أصيلون، أناس طيبون يحبون جيرانهم القريبين والبعيدين، هتفوا طويلاً لإدلب ودرعا وحمص وحماة و... يعيشون في بيوت بسيطة تحيط بها حواكير صغيرة وأحواض ورد.
نساؤهم يمشين في الأحياء متألّقات كالجرار المذهّبة. تعشش حرية مدنية في التفاصيل: موسيقى تنبعث من مكان، ورائحة طبخ تفوح من آخر، رسامون ومسرحيون، وساحة للكرامة بحّت بها الأصوات نداءً لوحدة البلد وثوبها الملون.
في السويداء، يُعتبر المثل الأقرب إلى قلب السكان: "الجار قبل الدار". لكن جيرانهم خذلوهم هذه المرة، وهو ما شكّل الألم الأعظم بالنسبة لهم.
وهنا لا أتكلم بشكل عام لكن أتكلم عن أكثرية أو ما وصلنا على مواقع التواصل الاجتماعي من ضَخْ إعلامي و تحريض طائفي.
وبالنتيجة الحتمية لقوة السلاح في مواجهة البراءة، اجتازت هذه المقصات حدود الأمان ودخلت مدينة السويداء.
لكن الحكاية لم تنتهِ ببساطة. تفاجأت مقصات السلطة بأن لهذا المكان طابعاً مختلفاً، فالمدينة كحجارتها صلبة، ليس مجازياً وحسب بل واقعياً. سرعان ما اصطف أبناؤها في مواجهة التطرف والكره، قاوموا محاولين رد الأذى عن منازلهم.
وقفت نساؤها إلى جانب رجالهن، ولمن لا يعرف، فنساء السويداء شجاعات وحرّات، يتمايل شعرهن مع الريح أثناء الدبكة. ولا يضيرهن أن يضعن الكتف على الكتف مع الرجال، رقصاً وحباً لموسم الحصاد.
ككثير من المجتمعات السورية المتنوعة هناك حبٌ منفتحٌ على الحياة. وفي مقابل مقصات السلطة المتوحشة، كانت هناك مقصات من نوع آخر: مقصات تهذّب الشعر وتصمّم الفساتين الملونة، ومقصات أكبر تقص العشب. وأقسى ما لدى الأهالي من مقصات، ذاك الذي يُقلّم به شجر الزيتون والتفاح.
كان اجتياح المدينة من القوات الحكومية ثم من العشائر لحظة فارقة ستدمر الرابط السوري معها. وهكذا طغى صوت احتكاك الحديد على كل الأصوات. حاولنا الإنصات وسألنا: ماذا فعلنا؟ ألستم أبناء وطننا؟ لماذا تقصّون الشوارب والأثواب؟ لماذا تنتهكون أجساد نسائنا وتقتلون أطفالنا؟ لكن الصوت الوحيد المسموع في المدينة كان: احتكاك شَفرتَي مقصٍ في الهواء وصوت رصاص وصيحات تكبير .
سردية الإيمان والكفر، وأرض الميعاد والجنة والنار، ليست بجديدة أو غريبة، لكن الجديد والمبتكر هو كيف حوّل الإيمان المقصّ إلى أداة حرب، فكان وقعها أكبر وأقسى من كل الأسلحة لأنه دخل ليدمر اعتزاز الناس بأنفسهم ورموزهم التي يفخرون بها وحين ندمر رموز الناس نقطع أي رابط معهم.
من خطط لهذه الهجمة كان قارئاً وعارفاً أن المقص وحده قادر على شقّ الثوب نصفين، فرسم الخريطة: خريطتين، وربما ثلاثاً أو أربعاً. كان يعلم أن الكرامة توازن ونظام حياة.
كان إنكار ألم السويداء والدمار الذي حلّ بها جزءاً من الخطة، كأن السلطة تود دفع الناس نحو البركة الخلفية لسوريا، ومحاصرتها ودفعها للجوء إلى إسرائيل، ثم تخوينها وإنكار مأساتها.
المشهد اليوم في البلد مؤسف ومحبط. قُصَّت الأنسجة، وصار شعار النصر، الذي عُرف منذ أيام الإمبراطورية الرومانية ثم استُخدم في الحرب العالمية الثانية كرمز لـ Victory ضد النازية، وإشارة نصر الفلسطينين والقومين العرب، بات يُستخدم اليوم من قِبل جيش التكفيريين وجمهورهم الذين يعتقدون أنهم حرروا البلد من حكم الطغاة بينما مازالوا يقومون بأفعالهم!
انقلبت إشارة النصر رأساً على عقب، لم تعد “٧” بل صارت “٨”، في إشارة إلى المقص. تبدّل النصر، وصار المقص سلاحاً معنوياً جارحاً ورمزاً للطائفيةٍ المقيتة. راح ضحيتهُ أبرياء من كل الأطراف والمكونات. حتى القبور لم تسلم نبشوها و مَثلوا بمن فارقوا الحياة منذ زمن بعيدْ.
منذ وفاة والدتي، احتفظتُ بمقصها النحاسي. كانت تخيط به الأثواب لكسب لقمة العيش ولتربيتنا. ورثته عن والدتها مع ماكينة الخياطة. أصبح هذا المقص في بيتي رمزاً لشرف الحياة، ولجهد امرأة في تربية أولادها وصنع أجمل الفساتين.
لكن هذه المرة، لا أعرف. حين أنظر إليه، هل سأستذكر أمي؟ أم تلك الجموع التي احتشدت لقتل أهلي في السويداء؟ بقيادة حاكم له تاريخ طويل في تفريغ العقول وصناعة المقاتلين، حتى ارتدى بدلة أنيقة صُممت بمقص فاخر واعتلى كرسي الحكم، وشكر العشائر البدوية لمشاركتهم في الغزوة. لماذا شكرهم في هذا التوقيت و في عزِ التحريض والنزاع الطائفي هذا السؤال الكبير الذي نريد الأجابة عليه؟
كيف لرئيس دولة أن يشكر طرفاً ليس له صفه رسمية لا جيش ولا قوى أمن، على حمل السلاح والانخراط في قتال مكون آخر. هو يسميهن على حد تعبيره عناصر منفلته وسلاح خارج سلطة الدولة
هل سلاح العشائر البدوية هو سلاح غير منفلت ؟؟
هذا الكلام مخصص للسويداء بحكم الظروف التي تمر بها وليس تحيزاً لمنطقة عن أخرى في سوريا، ولكنه يمكن أن ينطبق على أي مكان في العالم.
هو محاولة لوصف صورةٍ المجزرة كيف تحولت لوجه نظر. هناك من يراها انتصارٌ وقوة وتستحق الشكر، وهناك من يراه حدٌاً فاصلاً بين الموت والأمان.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.