منبر 03-10-2025 | 11:30

موسم الزيتون...ذاكرة الأرض

في قريتي، لا يمرّ فصل الخريف بهدوء، فهو الموعد السّنوي لموسم الزّيتون، هذا التقليد الذي يتجاوز كونه نشاطًا زراعيًا موسميًا، ليشكل ظاهرة اجتماعية واقتصادية وثقافية تعبّر عن عمق العلاقة بين الإنسان والأرض، وبين الفرد وجماعته.
موسم الزيتون...ذاكرة الأرض
زيتون في الجنوب.
Smaller Bigger

د. لانا جرجي موسى

 

 

 

في قريتي، لا يمرّ فصل الخريف بهدوء، فهو الموعد السّنوي لموسم الزّيتون، هذا التقليد الذي يتجاوز كونه نشاطًا زراعيًا موسميًا، ليشكل ظاهرة اجتماعية واقتصادية وثقافية تعبّر عن عمق العلاقة بين الإنسان والأرض، وبين الفرد وجماعته.
موسم الزيتون، بما يحمله من رائحة التراب والثمار، ليس مجرّد وسيلة لإنتاج الزيت، بل هو مناسبة تتجدّد فيها قيم التّعاون والتّضامن والعمل الجماعي. 
في القرية، تنقلب الحياة اليومية مع بداية تشرين الأول؛ العائلات تستيقظ باكرًا، تحمل معها الزّاد وأباريق الشاي والقهوة والعصائر... وتخرج إلى الحقول، وتُستعاد الطقوس المتوارثة من جيل إلى جيل.

 

هناك، تحت ظلال الزيتون، لا يجتمع الناس فقط لقطف الثمار، بل لتبادل الأحاديث، للغناء، للضحك، وحتى للاختلاف أحيانًا... لكن دائمًا ضمن دائرة الإلفة.
سوسيولوجيًا، العمل ليس مجرّد نشاط مادي، بل هو في جوهره فعل اجتماعي، وفق ما قال ماكس فيبر. وفي حالة قطف الزيتون، يتحوّل العمل إلى مساحة تفاعلية تعيد إنتاج الروابط العائلية والاجتماعية، وتعيد ترسيم الهوية الجماعية لسكان القرية. فالتعاون في قطف الزيتون لا يكون دائمًا بدافع الربح، بل بدافع الواجب والانتماء، في أغلب الأحيان. 
ولا يمكن إغفال البعد الاقتصادي لهذا الموسم، فلا نبالغ إذا قلنا إن الكثير من العائلات يعتمد عليه في تأمين دخلهم، الذي ينتظرونه من سنة إلى أخرى، إمّا ببيع حبوب الزيتون مباشرة، وإما ببيعه زيتًا شهيًا.
وفي ظلّ التراجع الحادّ الذي تشهده القرى اللبنانية نتيجة الهجرة الداخلية والخارجية، يأتي موسم الزيتون كواحد من اللحظات القليلة التي تعيد ضخ الحياة في الأماكن المهملة. 
يعود المغتربون، وإن لفترة قصيرة، ليشاركوا في هذا الطقس الجامع.
من ناحية أخرى، تلعب النّساء دورًا محوريًا في هذا الموسم، ليس فقط في الحقول بل في المطبخ أيضًا حيث تبدأ عملية "تصنيع الزيتون"، فيتفنّن برصّه وتزيينه وتحضيره بمهارة؛ فمنه الزيتون المملّح، المجرّح، المسوّد، المثقوب بالدّبوس والمرصوص بألوانه الأخضر والأسود... وتحضّر أيضًا خلطات الحشوة بالحرّ والجوز... هنا، تظهر الحرفة والانتماء الثقافي، فكل سيدة لها طريقتها الخاصة وسرّ خبرتها في مشهد يفيض بالذوق التراثي والحرفة المتوارثة عبر الأجيال.
وتتحوّل المعاصر إلى بيوت مفتوحة يقصدها الناس من مختلف المناطق المجاورة لعصر زيتونهم، فتغدو مكانًا للّقاء والضيافة بامتياز. تُفرش الموائد بالخبز المرقوق، اللبنة، الجبنة، الزعتر، البيض المقلي والمربيات... وكلّها تُغمس في الزيت الطازج الحادّ، ويقدّم الشاي والقهوة لتكتمل الجلسة بأجواء من الإلفة والفرح. 
ومع تعاقب المواسم، عمل أصحاب المعاصر على تجديدها وتطويرها، فحدّثوا معداتهم وواكبوا الأساليب الحديثة، حرصًا على رفع جودة الإنتاج وتسهيل الخدمة للناس، ما زاد من مكانة المعصرة كمحطة أساسية في حياة القرية والمجتمع. ومع امتلاء التنكات بذهب الأرض، تبدأ أحاديث التباهي بين أصحاب الرّزق، حيث يبدأ كلّ منهم بالحديث عن جودة أرضه وغزارة محصوله؛ فهذا يتحدّث عن لونه الأخضر الصافي، وذاك يؤكد أن زيتونه يعصر على ٧٠ كيلوغراماً، وآخر على ٧٥ كيلو... بينما آخر يفاخر قائلًا زيتي لا يقاس بالكيلو بل بكل "مدّ ورطلو"... في إشارة إلى وفرة الخير وجودة الثمار، وطبعًا لا أحد يبخّس بزيته انطلاقًا من المثل القائل: "ما حدا بنادي عزيتو عكر". هذا التّباهي ليس غرورًا بل فخر بالأرض التي سقاها الآباء بعرقهم، وحرثها الأجداد بأيديهم، وزرعوها حبًا، فتوارثها الأبناء عطاءً، فأنبتت زيتًا فيه البركة. وهنا، لا يكون الزيت مجرّد محصول، بل حكاية أجيال، وذاكرة أرض، ومرآة لتَعب صار بركة في كل بيت.
هكذا، يشكّل موسم الزيتون مشهدًا متكاملًا من الإنتاج والهوية والتواصل الاجتماعي. وفي زمن تتسارع فيه وتيرة الفردانية والتفكّك المجتمعي، يبقى هذا الموسم من اللحظات النادرة التي يظهر فيها المجتمع القرويّ كجسد واحد، نابض بالعطاء والحنين والبساطة، لعلها دعوة غير مباشرة لنا جميعًا لإعادة النظر في معنى العمل، وفي قيمة المواسم التي نراها أحيانًا روتينية أو تقليدية. ففي طقوس الزيتون شيء من الحكمة القديمة، ومن البعد الإنساني الذي نفتقده في صخب الحياة الحديثة. 
واليوم، في ظل ما نعيشه من اغتراب داخلي وخارجي، تبقى القرى حاجة ملحّة أكثر من كونها مجرّد حنين. إن الاهتمام بالقرى، والعودة إلى الأرض، والاعتناء بالمواسم، ليست مسؤولية وجدانية فقط، بل مشروع إنقاذ للهوية، وللاستقرار الاجتماعي في لبنان. لنعد إلى قرانا قبل أن تُصبح ذاكرتنا دون أرض.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
سياسة 10/5/2025 3:09:00 PM
تابعت: "إن الدستور اللبناني يكفل المساواة بين اللبنانيين، مقيمين كانوا أم مغتربين. وتحقيق هذه المساواة يقتضي تعديل القانون الحالي بإلغاء المادة 112، بما يسمح لكل مغترب بالاقتراع في بلدته الأم".
مجتمع 10/4/2025 12:02:00 PM
من المتوقع أن تتأثر المنطقة اعتباراً من بعد ظهر الثلاثاء بمنخفض جوي متوسط الفعالية مركزه شمال غرب تركيا.
مجتمع 10/4/2025 3:23:00 PM
العملية تأتي في إطار الحملة الأمنية التي ينفذها الجيش في المنطقة لضبط المطلوبين ومواجهة التفلّت الأمني منذ ساعات الصباح الأولى.