أصوات المهاجرين: الحقيقة التي تخشاها السلطة

فرانسيسكا موسى
لا يختلف اثنان أنّ المهاجرين اللبنانيين باتوا رئة الوطن الاقتصادية، يرسلون تحويلات بمليارات الدولارات سنوياً لإنعاش اقتصاد يحتضر، ويحمون آلاف العائلات من الجوع والانهيار. لكن حين يأتي وقت استحقاقهم السياسي، يُحرمون أبسط حقوقهم: التصويت. مشهد قاسٍ يتكرّر مع كل انتخابات نيابية، ليكتشف اللبناني في الخارج أنّ المسافة التي تفصله عن وطنه ليست جغرافية فحسب بل سياسية أيضاً. هو يمدّ بلده بالحياة، لكنه في لحظة الحقيقة يُعامل كمواطن درجة ثانية.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تُمنع أصوات المهاجرين؟ ومن المستفيد من إقصائهم؟
من الناحية الدستورية، لا لبس في الأمر. الدستور اللبناني يكفل حقّ الاقتراع لكل مواطن بلغ السن القانونية من دون تمييز. غير أنّ الممارسة على الأرض تحوّل هذا الحق إلى ترف أو امتياز، يخضع للتجاذبات السياسية. السلطة تتذرّع دوماً بصعوبات لوجستية، أو بنقص في الإمكانات، أو بثغرات في القانون الانتخابي، لكن الحقيقة أبعد من ذلك: هناك إرادة واضحة لإبقاء المهاجر خارج اللعبة، لأن صوته قد يُطيح معادلات ثابتة عمرها عقود. تجربة انتخابات 2018 و2022 شكّلت نقطة مفصلية في هذا النقاش. ففي هذين الاستحقاقين، لعبت أصوات المغتربين دوراً حاسماً في بعض الدوائر. فبينما حاولت القوى التقليدية تطمين نفسها الى أنّ الناخبين في الخارج سيتوزّعون على القوى ذاتها كما في الداخل، جاءت النتائج صادمة: آلاف الأصوات ذهبت لمصلحة قوى التغيير والمستقلين، وساهمت في إدخال وجوه جديدة إلى البرلمان. تلك النتيجة كانت بمثابة جرس إنذار للمنظومة الحاكمة، التي أدركت أنّ المهاجرين يشكّلون خطراً وجودياً على استمرار سيطرتها. فالناخب المهاجر يختلف عن المقيم. الأول يعيش في أنظمة ديموقراطية أكثر استقراراً، اعتاد المشاركة السياسية بعيداً من الخوف أو التبعية، ويرى وطنه من مسافة تكشف بوضوح حجم الانهيار والفساد. أما الثاني، فيظلّ عالقاً ضمن شبكة المحسوبية الطائفية، حيث يُشترى صوته بخدمة أو يُقيّد بخطاب التخويف من الآخر.
هذه الفوارق تجعل صوت المغترب أكثر تحرراً، وأكثر ميلاً إلى التغيير، ما يفسّر رعب المنظومة من اتساع حجم مشاركته. لكن المفارقة الكبرى أنّ الدولة نفسها التي تحرم المهاجر من التصويت، تعتمد على تحويلاته المالية ركيزة أساسية لبقاء الاقتصاد حيّاً. فبحسب أرقام البنك الدولي، تجاوزت تحويلات المغتربين اللبنانيين في السنوات الأخيرة 6 مليارات دولار سنوياً، أي ما يشكّل أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الأموال تدخل إلى جيوب العائلات وتغذّي الدورة الاقتصادية، في حين يُسلب أصحابها حقّ المشاركة في رسم مستقبل البلد الذي لا يزال يطلب تضحياتهم.
إنها معادلة غير عادلة: "أموالكم مطلوبة، لكن أصواتكم مرفوضة". وراء هذا الواقع تقف حسابات دقيقة. الأحزاب الطائفية تخشى أن يشكّل المهاجرون كتلة ناخبة معارضة عابرة للطوائف، قادرة على قلب التوازنات الهشة. رجال السياسة والمال يعرفون أنّ المغتربين لا يخضعون بسهولة للترغيب والتهويل، ولا يقايضون أصواتهم بوعود خدماتية. وحتى بعض القوى التي تدّعي التغيير تتردّد في الدفاع الصريح عن حقّ المهاجرين، خشية أن تأتي النتائج عكس حساباتها. وهكذا يتحوّل الناخب في الخارج إلى رهينة لعبة سياسية لا ذنب له فيها. إنّ إقصاء المهاجرين لا يضعف العملية الديموقراطية فحسب، بل يوجّه ضربة قاسية إلى فكرة الانتماء نفسها. اللبناني في الخارج يشعر اليوم أنّه يُستحضر فقط كرافعة مالية أو كواجهة دعائية حين تحتاجه السلطة، بينما يُغيب صوته السياسي عند كل استحقاق. وهذا الشعور بالخذلان يوسّع الفجوة بين الداخل والشتات، ويهدّد بقطع الرابط الذي حافظ على وحدة اللبنانيين رغم تشرذمهم.
إنّ حرمان المهاجرين المشاركة في الانتخابات ليس مسألة تقنية ولا إدارية، بل هو خيار سياسي متعمّد هدفه حماية المنظومة من محاسبة ناخبين أحرار. وهذه الحقيقة تطرح سؤالاً جوهرياً: أي ديموقراطية تُبنى على إقصاء نصف الشعب؟ وأي شرعية لنظام يخشى مواجهة أصوات من يفترض أنّهم أبناؤه؟ إذا كانت الانتخابات هي لحظة الحقيقة، فإنّ استبعاد المهاجرين يحوّلها إلى مسرحية ناقصة، تُدار بمنطق الصفقات لا بمنطق المواطنة. الحلّ يبدأ بإرادة سياسية صادقة تضمن مشاركة جميع اللبنانيين، داخل البلاد وخارجها، في تقرير مصيرهم. من دون ذلك، سيبقى لبنان عالقاً في دائرة مغلقة من التزييف، وستبقى أصوات المهاجرين ضائعة خلف البحار، فيما الوطن يستمر في الغرق تحت أيدي سلطة لا تسمع سوى صدى مصالحها.