منبر 01-10-2025 | 09:42

زغرتا: قلعة التراث الشمالي

في شمال لبنان، حيث تلتقي الجبال بالسهول، وتفوح رائحة الزيتون في كل بيت، تقع زغرتا؛ مدينة ليست كسائر المدن، بل هي حكاية ممتدة عبر قرون، نسجتها الأرض برجالها، وزينتها النساء بصبرهن، وحفظتها الأجيال بالذاكرة والوجدان. زغرتا ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي هوية كاملة، تختصر في تفاصيلها معنى التمسك بالأرض والحرية والكرامة.
زغرتا: قلعة التراث الشمالي
بلدية زغرتا - إهدن. (طوني فرنجية)
Smaller Bigger

المحامي بدرو جبران

 

في شمال لبنان، حيث تلتقي الجبال بالسهول، وتفوح رائحة الزيتون في كل بيت، تقع زغرتا؛ مدينة ليست كسائر المدن، بل هي حكاية ممتدة عبر قرون، نسجتها الأرض برجالها، وزينتها النساء بصبرهن، وحفظتها الأجيال بالذاكرة والوجدان. زغرتا ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي هوية كاملة، تختصر في تفاصيلها معنى التمسك بالأرض والحرية والكرامة.
منذ القديم، شكّلت زغرتا ملجأً لأهلها، بما تحمله من طبيعة وعراقة. فجبالها كانت حصنًا، وسهولها مصدر رزق، وزيتونها رمزًا للسلام والبقاء. لكن ما أعطاها فرادتها هو شعبها، المعروف بالقوة والإقدام، إلى جانب حبه للحياة والضيافة.
في تاريخ زغرتا أسماء لامعة ورجال تركوا بصمة لا تُمحى. ففي وجه الغزوات والمحن، كانوا دومًا الصف الأول للدفاع عن الأرض والعرض. العشائر الزغرتاوية، بترابطها وتضامنها، شكّلت مثالًا يُحتذى به.
 في القرون الماضية، حين كانت القرى اللبنانية تتعرض للغزوات، وقف رجال زغرتا بالبنادق والسيوف، يقاتلون بضراوة، لا يخافون الموت. تاريخهم حافل بمواجهات جسّدوا فيها روح البطولة والفداء.

 

 

حين كان الوطن يناضل للخروج من الإستعمار، شارك رجال زغرتا بفاعلية في المعارك الوطنية. كانوا صوتًا للحريّة، وأيديهم لا تعرف غير الكرامة.
التضحية في زغرتا ليست حدثًا عابرًا، بل هي سلوك يومي توارثه الأبناء عن الأجداد. الشاب الزغرتاوي ينمو على أن الكرامة فوق كل اعتبار، وأن الأرض لا تُفرّط بها. كم من أم زغرتاوية ودّعت إبنها شهيدًا بعين دامعة، لكنها رفعت رأسها لأنّه رحل بكرامة. هذه الروح هي التي أبقت زغرتا قوية رغم كل الصعاب. ورغم قسوة الحروب والمحن، لم يترك أهل زغرتا تراثهم يضيع.
ففي الأعراس، الدبكة الزغرتاوية هي إعلان فرح، لكنها أيضًا استعراض للقوة والرجولة، حيث يضرب
الراقصون الأرض بأقدامهم كأنهم يقولون: "نحن هنا".
في المواسم الزراعية، كقطاف الزيتون، يتحول العمل إلى مهرجان إجتماعي، تجتمع فيه العائلات، ويُقدَّم الطعام للعمال بكرم لا حدود له.
أما الكبة الزغرتاوية، فهي ليست مجرد طبق، بل رمز يجمع الأهل حول مائدة واحدة، ويجسد فكرة أن اليد الواحدة لا تُصفّق، وأن التعاون أساس الحياة.
من زغرتا خرج شعراء وزجّالون حملوا وجع الأرض وأمجادها في كلماتهم. المواويل الزغرتاوية كثيرًا ما تغنّت بالبطولة والحب والوفاء. وفي الأغاني الشعبية التي ما زالت تتردّد حتى اليوم، نسمع صدى تلك الأيام حين كان الرجال يخرجون للقتال، والنساء يودّعنهم بالزغاريد والدعاء.
أرض العناد والوفاء ليس لقبًا عابرًا لزغرتا، بل هو خلاصة روحها وتاريخها.
فالزغرتاوي، منذ القدم، عُرف بعناده، ليس عنادًا أعمى، بل عناد نابع من التمسك بالأرض والجذور، ومن الإيمان بأن الكرامة لا تُشترى. حين كان الغزاة يطرقون أبواب الجبال الشمالية، كان رجال زغرتا يقفون لهم بالمرصاد، يواجهون الموت بصدور عارية، لا يتراجعون خطوة إلى الوراء. هذا العناد جعل من زغرتا حصنًا منيعًا في وجه كل من حاول النيل منها.
لكن مع هذا العناد، هناك الوجه الآخر: الوفاء. الوفاء للأرض التي يزرعونها ويحصدونها عامًا بعد عام، الوفاء للعائلة التي تبقى متماسكة في الشدّة قبل الفرح، والوفاء للأصدقاء والجيران حيث الكلمة عهد واليد سند. في الأعراس يتشاركون الفرح كأنهم عائلة واحدة، وفي الأحزان يقفون صفًا واحدًا، يُخففون الوجع عن بعضهم البعض.
اليوم، ما زال الشعب الزغرتاوي يحمل في قلبه روح الأجداد. أبناؤه منتشرون في أصقاع الأرض، لكنهم يعودون دائمًا إلى مدينتهم في الأعياد، وكأنهم يشدون خيطًا غير مرئي يربطهم بجذورهم. زغرتا تعيش في كل مغترب يحمل في قلبه أغنية عن الزيتون، أو ذكرى عن الدبكة، أو صورة عن بيوت الحجر القديمة.
زغرتا ليست مجرد مدينة شمالية، إنها قصيدة من تاريخ لبنان، مكتوبة بعرق فلاحيها، وبدماء رجالها، وبأصوات نسائها اللواتي غنين للحب وللوطن. الشعب الزغرتاوي، بما حمل من تضحيات وما حافظ من تراث، يشكّل صفحة مضيئة في كتاب الهوية اللبنانية. إنها مدينة تعلّمنا أن الكرامة لا تُشترى، وأن الأرض لا تُباع، وأن الذاكرة حين تحفظها الأجيال تتحوّل إلى حياة أبدية.


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
اقتصاد وأعمال 9/29/2025 10:48:00 AM
في عام 1980، وصل الذهب إلى ذروته عند 850 دولارًا للأونصة، وسط تضخم جامح وأزمات جيوسياسية. وعند تعديل هذا السعر لمستويات اليوم، يعادل حوالي 3,670 دولارًا.
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟ 
النهار تتحقق 9/30/2025 9:34:00 AM
العماد رودولف هيكل ووفيق صفا جالسين معاً. صورة قيد التداول، وتبيّن "النّهار" حقيقتها.